مُحتوى القُصَاصَة

رَحِمَ اللهُ الشاعرَ محمَّد بن عبد الله المرّي[1]؛ لقد تذكَّرته وتذكَّرت ديوانه: (زمان الصَّمت)، الذي كأنَّه يكتب قصائده اليوم، وكأنَّه عاش معنا، ويشاهد الاغتيالات التي يتعرَّض لها أبطال فلسطين وقادتها!

 كما ذكرتني تلك القصائد بانتفاضة أبطال الحجارة عام 1987م، وفرحتنا بها، والأمسية التي أحييناها في مقرّ منظمة فلسطين في شارع الخليج، وما كتبناه تضامناً معهم؛ وهو واجبٌ محتومٌ على كلّ عربيٍّ ومسلم،

رحمك الله، يا أبا عبد الله، وحتّى لو أنَّك رحلت، فأنت باقٍ معنا، بذكراك وبإبداعك، الذي نختار منه ما يُعبِّر عمَّا نعيشه اليومَ، دفاعاً عن الأمَّة العربيَّة والإسلاميَّة، وممَّا كتبت عن زمان الصَّمت، نهدي …

 

قِصَّة القُصَاصَة

هو ذلك السرُّ، والتَّسخير لشخصه، والتي وقفتُ عاجزةً حِيَالَها، ولم أجدْ لها تفسيراً سوى إنَّها خبيئةٌ[2] له، قد جنّدت له آخرينَ لتعويض عُمره القَصير.

إنَّها الخَبِيئَة التي حَسِبْتُها، عَلِمَها ربُّه سُبحانه، وجَهِلَها عبادُه، ففيها توجيه وبيانٌ: ((مَنِ استطاعَ منكم أنْ يكونَ لَهُ خَبْءٌ مِنْ عمَلٍ صالِحٍ فلْيَفْعَلْ))[3]،

ذلك أنَّه لم يكن هناك معرفةٌ به وبأهلِه، ولا نسبٌ بيننا ولا رَحِمٌ، ولم يصدف لي رؤيته، فقط هو ديوانُ شِعرٍ كتبه وكان فيه الأثر، وفرضت الاهتمامَ بهذا الديوان والاحتفاء به ثلاثة أمور:

 أوَّلهما: إهداؤه لشخص قريب منّي، أدهشتني فِراسته في اكتشاف خصال حميدة وشيم أصيلة وأخلاق فريدة، لهذا الشخص، ازدادت ظهوراً وتعمّقت أثراً، عندما تقلَّد حقيبة وزارية خَدمية، أدّى فيها الأمانة وكسب خلالها الثناء، ولا نزكّيه على الله، حتى إنَّ صاحبَ قُصاصتنا لم يمهله العمر، ليدرك تلك الحِقبة من الزّمن، لكنَّ الأثرَ باقٍ والبَصْمةَ جليّة والأجرَ محفوظٌ.

أمَّا الأمر الثَّاني: فهو مادة هذا الدّيوان الموسوم بـ ((زمان الصَّمت))، حيث كان ينطق بلسان حال أمَّة تعاني من الظلم وسلب الحقوق وهدر الكرامات، والصَّمت في مواطن تكون الكلمة هي أضعفُ الإيمان وأبسط أماني الشعوب!

 أمَّا الأمر الثَّالث: فهو خبرُ مَوْتِه الموجِع، وخسارة المجتمع في شخص ((بأمَّة)) حَمَلَ همومها وسعى ليحفظ تراثها من خلال مؤلفاته.

ما سَبَقَ هي أمورٌ ثلاثة، عَلَّلْت بها هذا الاهتمامَ الغريب بشخصه، حتى إنَّني حرصت على إرسال هذا الدّيوان إلى القريب ومن كان الإهداء له، ساعيةً بتذكيره به، ولعلَّه يكون له نصيبٌ في أعمال الخير التي عُرف بها، وكان ديدنه في ذلك، أوقافٌ يوقفها ويهبها، ومساجدُ يبنيها ويعمّرها، يكون ثوابها وأجرها موصولاً بأرحامه وأصدقائه وأقاربه ومن كان له ودٌّ عند والديه، وفعلاً كان عند حسن الظنّ عند التواصل معه، حيث كان الردُّ مطمئناً دونَ إفصاح.

ليست هذه نهاية القِصَّة، فدائماً ما أجدُ شخصه حاضراً في أجمل اللَّحظات التي أعيشها فرحتها وأنسها وبركتها، راجيةً، متضرّعة، قريبة من الله سبحانه، في سجدة، أو خَلْوة، أو عند الإفطار، أو مناجاة سَحَرٍ، أو في سفر، أو في ساعات إجابة، أو في جمعة أو في بقعة مباركة.

غريبٌ هذا الشَّخص، حيث اقترنَ بأشخاص، هم الحاضرون دوماً في حياتي، وهم القطعة من روحي التي سبقتني إلى ربّي، فأشركهُ معهم ((أخي ووالدّي)) في دعائي وما ييسّره لي ربّي.

إنَّ ما يحدث هو أحدُ الأسرار التي لا نملك شيئاً حِيالها، وقد تمرّ علينا دون أن نجدَ ما يفسّرها ولكنَّها كذلك.

تذكرت أخانا – يرحمه الله – في الأمس القريب، عندما بدأت جحافلُ المنافقين، تحلّل وتناقش ما كان في السَّابق حراماً، وتزيّن صلحاً تأباه النُّفوس ذات العقيدة السَّليمة وترفضه العقول الراجحة والرّشيدة، وتخوض تلك الجحافل بآرائها ومواقفها المشينة في عِرْضِ قبلة المسلمين الأولى، ومسرى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، الذي بارك الله به وبأرضه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. (الإسراء:01).

هذا المسجد الأقصى المبارك يمثّل لنا عقيدةً وديناً، قبل أن يكون أرضاً وحجارة، ولن تفلح تلك الأصوات في تغيير هذه العقيدة الرّاسخة في وجدان كلّ مسلم، مهما زيّنت لمواقفها صلحاً لن يكون، وتمنّت أو مهّدت لسلام مزعوم، وتستخدم فيه أحياناً إنسانية في كسب رضا وودّ من هنا أو هناك، لكنّه كتابُ ربّنا ومنهجنا القرآن الكريم، الذي قرَّر استحالة إحقاقه، وأثبت وعدَه الصَّادق المبين، لعباده المؤمنين بالعزّة والنَّصر والتمكين، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. (النور:54-55).  وقال رسول الله، صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأَوَاء[4]، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك))، قالوا: يا رسولَ الله، وأين هم؟ قال: ((ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس))[5].

تذكَّر أحدُهم صاحبَنا في تغريدة، وأشادَ بمواقفه في ذلك، وأبيات شعره في أقصانا المبارك وبيتنا المقدَّس، فسعيتُ أسألُ عنه، عسى أن أعرفَ قريباً له يُطلعني على شيءٍ من حياته، علَّني أجدُ تفسيراً في تسخيره لأمِّهِ، في كلّ لحظاته، يخصّها به سبحانه وتعالى بمناجاته، فتعرف حينئذٍ أنَّ هناك خَبِيئَةً بينه وبين ربِّه، والتي جعلت له تلك المكانة.

رَحِمَ الله أخانا وأمواتنا والمسلمين، وتقبَّل الله دعاءً، وُفّقْنَا له، وجعلهم مع المنعَّمين مع الأنبياء والصّدّيقين والشّهداء والصَّالحين وحسنَ أولئك رفيقاً، وعسى أن يكونوا من سبقت لهم منه الحُسنى وهم عنها مُبْعَدُون لا يسمعون حَسِيسَها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون، وأن يكونوا مع السَّبعين ألفاً الّذين يدخلون الجنَّة بغير حساب ولا سابقة عذاب، وجمعنا بهم أخرى، في فِرْدَوْسِه وتحت ظلّ عرشه، بِمَنِّه وكَرَمِه وجُودِه.

هَمْسَةٌ:

أنهيتُ كتابةَ قِصَّة هذه القُصَاصَة، عصرَ يومِ الجمعة في تمام السَّاعة 5:15، في 13 من شوَّال 1441هـ الموافق لـ 5/6/2020م، عسى أن تكون صادفت ساعةَ إجابة.

[1]  هو محمَّد بن عبد الله الأسود المري، شاعر وأديب،عمل بوكالة الأنباء القطرية ثمَّ انتقل إلى تلفزيون قطر ،وتدرَّج في سلّمه الوظيفي إلى أن شغل منصب رئيس قسم الأدب والتراث الشعبي، توفي رحمه الله عام 2002م، وترك العديد  من الكتب والقصائد منها : شظايا شوق “ديوان نبطي”، وكتاب : “الأمثال الشعبية في البيئة القطرية”، وديوان: “زمان الصمت”، موضوع هذه القصاصة.

[2]  قال ابنُ أثير في كتابه “النهاية في غريب الحديث”: “الخبء كل شيء غائب مستور. يقال: خبأت الشيء أخبؤه خبئاً إذا أخفيته. والخبء، والخبيء والخبيئة: الشيء المخبوء”.

[3]  رواه الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة، وصحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة.

[4]  شِدَّةُ الضِّيق.

[5]  أخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي أمامة، رضي الله عنه.

النشرة البريدية

اشترك فى النشرة البريدية لمعرفة كل جيد عن الدكتورة نورة