مُحتوى القُصَاصَة

 

بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحِيم

الأخت العزيزة / نورة علي الحنزاب،

لَكِ منّي أجملَ التَّهاني من القلب، مهداة لشخصك العزيز، بمناسبة حُصولِك على شهادة الدّكتوراه، فنجاحُك أشاعَ الفرحةَ والغِبْطَة والسُّرورَ في نفسي.

مع أطيب التمنيَّات لك بحياةٍ هنيئةٍ في مجالِ عملك المُقبِل، وعمراً مديداً وصِحَّةً وعَافيةً مع أفرادِ أسْرَتِك.

                                                       وتقبَّلي تحيَّاتي …،

                                                                                                                 أختك

                                                                                                    مريم صالح الأشقر

نوفمبر / 1997م

 

 

قِصَّة القُصَاصَة

كان يكفي أن تكون بطاقة تحمل اسمها ومشاعرها، لكنَّها أبت إلاَّ أن تكون الذّوق كلّه، كعادتها وعادة عائلة ترعرعت فيها؛ فكانت هذه القُصَاصة عبارةً عن بطاقةٍ محمَّلةٍ بكلّ مشاعر الحبّ والأخوَّة، يُزيّنها غلافٌ لم تكتفِ باختياره، بل حاكته بأناملها، وجَمَّلته بأرقّ الحروف وأسمى العبارات، وفي أبهى حلَّة، معبّرة عن أجمل المشاعر وأنبل العواطف، ومكتسية عطرَ الأخلاق ونفحاته.

هذه البطاقة أو ” القُصَاصَة ” عَنَتْ لي الكثير؛ في ثوب الإتقانِ الذي صُدّرت به، وبذلٍ يندر مثيلُه، لتقدّمه في أجمل وأجود صورة.

عطاءٌ كهذا له عظيمُ الأثر في النَّفس والقلب، يصوّر الحبَّ الأخوي والمشاركة الوجدانية المؤثرة، قُصَاصَةٌ أكتبُ قصَّتها والذَّاكرة ترجع لتجمع شتاتَ صورٍ ومواقفَ لها ولأختها ووالدتهم، ولتؤكّد علماً درسته وتخصَّصت فيه بأنَّ الذوق هو أحد الصّفات الجِينيَّة التي تحملها كروموسومات الإنسان، وليضع بصمته فيها بممارسته ومعاملته وأخلاقه، ولتبقى هذه البصمة حيّة تنبضُ بالحبّ وتتوارثها الأجيال.

كانت مصاهرتهم إضافة للعائلة، ظفر بها أحدُ الأقرباء، عندما تزوَّج أختها الكبرى – رحمها الله – والتي غادرت الدّنيا سريعاً، تاركةً عبق إرثها فيمن حَمَلَ جينها.

حينها كنَّا أطفالاً نسعدُ عندما نزورهم ونلتقي والدتهم الجليلة، كان يُبْهِرُنا ذاك التَّرتيبُ العجيبُ في مجلسها، والذَّوقُ الرَّفيعُ في ضِيافتها، كانت تبهرُ الزَّائرَ على مختلف سني عمره، بذوقٍ وترتيبٍ لمكان تشغله، ولطفٍ وأدبٍ لزائرها تظهره.

شريطٌ من الذكريات أسترجعه، وأنا أدوّن قصَّة قُصاصتي، كانت أختها الكبرى – يرحمها الله -، والتي على الرَّغم من قصر حياتها، والذي تركت من بعدها حزناً به دفيناً، لا يملك المرءُ حيالَه سوى الرِّضا بما قدَّر الله، واليقين بأنَّ فيه الخيرَ لها ولمن فارقت، إلاَّ أنَّها عامرةٌ في أحداثها ومواقفها، مبهرةٌ في أثرها وذوقيَّاتها، فلم تكن الحياة في طبيعتها مفروشة لها بالزّهور، ولكنَّها أنبتت وروداً وأزهاراً كانت لمن حولها حياة طيّبة.

جاءت إلى العائلة عَرُوساً، فكانت حديثَ فتيات الحارة؛ من أناقة في لباسها، وتسريحة شعرها المبهرة، والجمال الذي يكتسي به بيتها، حتّى إذا جئت إلى ضيافتها وما يقدّم فيها، فإذا هي سابقة لزمنها بأطيب الطَّعام والشَّراب ورقيّ الإناء.

 كانت الزيارة متعة بحدّ ذاتها، أضافت إلى الأجواء المميَّزة التي يجتمع فيها الأنس واللّعب مع القرينات من الأقارب، كانت مدرّبة تنموية من حيث لا تدري، تعلَّمت الأرقى في التعاملات الاجتماعية، والأرقى في علوم “الإيتكيت” وفنونه، مالم يُتعلّم في أرقى معاهد التنمية البشرية، غادرت على حين غِرَّة، ولم يُمهلْها العمرُ لينهلَ منها المزيد، كانت في عزّ عطائها، والقلوب في شوقٍ إليها، وهي بينهم، فإذا السَّاحة تفتقد كلّ ذلك.

ذكرياتٌ يجمعُ بعضُها بعضاً، وعطاءٌ عمّرت به رصيدَها فيمن حولها ممَّن عرفنها من أصحابٍ وأهلٍ وجيرانٍ.

تلك الجيناتُ جعلت الذَّوق لهم إرثاً تعكسهُ أخلاقهم، وتتألَّق بها شخوصهم، وتتجلّى فيه أفعالهم، لتحمل أجمل المشاعر وأنبل العواطف، إنَّها جيناتُ الذَّوق لسلوك الرّوح المهذبة ومعدن الأخلاق الأصيلة المرضيَّة.

إنَّها الأخلاقُ حينَ ترتدي أجملَ ثيابها، هو عطرُ الأخلاق ونفحاته، هو القمَّة حين تتألّق في إنسان وتتجلّى في أحاديثه المنطوية على أجمل المشاعر وأنبل العواطف وأرقّ الأحاسيس، ذلك الذَّوق الجميل هو المحرِّكُ للطائف الرّوح وصفاء القلب، هو الإنسان في أبهى صورته وأرقى حضارته.

هو جمالُ العطاء عندما يهبه الكريمُ المنَّانُ، حينها لا يملك الإنسان في هذا البيان، إلاَّ أن يرفع يديه بدعوات ترفع للسَّماء، بأن يجمع كلّ من بسلوكه اجتهد وبخلقه أحسن وبروحه ارتقى، في جنّات الفردوس في أعلى الجنان، وأن يرزق حياةً هانئة سعيدة مطمئنة لمن بقي، وعسى أن يكون هناك الملتقى.

هَمْسَةٌ:

لا تَستصغِر إحسانَك في أبسط لمساتِك، فإنَّها محمودةٌ في السَّماء، مذكورة في الأرض، وما قُصَاصَتُنا هذه إلاَّ “أنموذج” يُذكَر، ومثالٌ يُحتذَى، وتجربة تُؤثَر، وبصمةٌ تفتحُ الآفاقَ لمزيد عملٍ واجتهاد، والله الموفّق وهو المستعان والهَادِي.

النشرة البريدية

اشترك فى النشرة البريدية لمعرفة كل جيد عن الدكتورة نورة