مُحتوى القُصَاصَة

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

السيّد / رئيس تحرير جريدة الشرق،

 المحترم ..

من أجل ما تبقى من أمانة صحفية .. ومن أجل هذه الأمة التي تنتظر منا الكثير، قال تعالى: { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا} . ( يوسف)

أبعث لكم هذه الشهادة .. التي أتمنّى أن تجد مساحة لنشرها في صحيفتكم .. شهادةً تحمل بين سطورها حرص فتاةٍ لم تتجاوز عقدها الثاني من العمر على مستقبل أُمتها .ّ. وخوفها من أن توقف الزوابع عطاء والدتها .. وتثنيها عن طريقٍ أرادت مسلكه ..

ولقد رجوتها نشره، حتّى أنقل إليكم ما استطاعت ببعد نظرها إدراكه .. وعجز عن ذلك من يزعم أنه يحمل قلمه سلاحاً يحمي به الأمَّة ..

هذه الأمَّة التي لم يراع مصيرها .. عندما اختار أكثر عناصرها عطاءً لتكون أوَّل ضحاياه ..

إليكم رسالة ابنة محبّة .. لوالداتها ..

قِصَّة القُصَاصَة

هذه القُصَاصَة أو ((الرِّسالةُ)) من القُصَاصات الّتي أدّى فرحي بها إلى حفظها؛ لما احتوته وما أحدثته، حيثُ وجدت فيها -بفضل الله وكرمه-ثمرات لبذور اجتهدت في غرسها، فيمن حولي، وبمن أمرني ربّي برعايتهم، وهم فلذاتُ قلبي وزهور عمري بناتي وأبنائي.

 واعتبرت هذه الرّسالة شهادةً أفخر بها؛ لأنَّ الشهادة هي الأَوْلَى بالقَبُول والاعتزاز، إذا كانت من أهل بيتك، ممَّن يعيش معك تحت سقف واحد، يرقب حركاتك وسكناتك وانفعالاتك، تحت مختلف الظروف، وفي كل الأحوال، وعلى مختلف الأوضاع.

فمن المعلوم أنَّ الإنسانَ مع عائلته يأخذ راحته، فلا تكلّف في المعاملة، ولا تجمّل في الأخلاق، بل هي السّجية على طبيعتها، لذلك عندما يكون الانطباعُ طيّباً عن شخصك، فَحُقَّ للمرء أن يَطْمَئِنَ على نفسه ودينه، فالدّينُ حسن الخلق، كما قال – صلّى الله عليه وسلّم – ((مَا مِنْ شيءٍ أثقلُ في الميزانِ من حُسنِ الخُلُقِ))[1]،

وكم يزداد فرحي وسروري، وأنا أشهدُ وعيَهم وثقافَتهم وثباتَهم وخُلقهم في الدّفاع عمَّا يرونه حقاً من وجهة نظرهم.

وتأتي قصَّة هذه القُصَاصَة (الرّسالة) موجهّة إلى رئيس تحرير إحدى صحفنا المحليَّة، على إثر موضوع تناولته الصَّحيفة في نيسان/ إبريل من العام 2001م، كنت خلالها رئيسةً لوحدة الكُلى الخيرية، إحدى المشاريع المباركة بين دار تنمية الأسرة حينذاك، وبين مؤسسة حمد الطبيَّة.

 وتبدأ بمقال صحفيّ لإحدى صحافياتهم معي، من خلال مكالمة هاتفية، صادف تواجد ابنتي عندي وسماعها ردّي على كلّ تساؤلاتها، حتّى إذا نشر اللّقاء، فإذا هو معنونٌ بأسوأ ما يعبّر عنه من الألفاظ، في حقّ شخص عاديٍّ، فكيف بمن يرأس عملاً خيرياً!

وقد وجدت الصحافية في هذا الموضوع هدفاً لتسويق صحيفتهم، وتحريك الرَّأي العام، وهذا شيء مطلوبٌ، غير أنَّه غير مقبول، عندما يكون الثمن فئة من البشر هم الأحوج للطمأنينة على صحتهم وحياتهم والثقة بمن له دور في استمرار علاجهم من مؤسسات خيرية وأفراد يمثلونها.

صحيح أنَّ هذا الموضوع قد حقّق للصحيفة المذكورة هدفها، بما أحدثه من فرقعة إعلامية، تهافتت على خلفيتها وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، لتوضيح ما جاء في المقال، وتحرَّك المسؤولون في المؤسسة الخيرية التي أمثلها والوزارة ذات الصلة لتوضيح ما جاء في المقال.

تواصلت مع الصّحيفة مطالبة إيّاهم بالاعتذار، أو على الأقلّ نقل الحقيقة كما هي، لكنَّهم كانوا مصرّين على الاحتفاظ بما حقَّقوه من سَبْقٍ صحفي، وألحقوه بنشر المكالمة مفصّلة محذوف منها كلّ ما يظهر الحقيقة ويُدينهم، ثمَّ إصرارٌ آخر منهم بحذف أجزاء من كِتَابٍ وجَّهته إليهم، أكشفُ لهم ما أخفوه، وأذكرهم بمخالفتهم لرسالة وَعْيٍ اؤتمنوا عليها، ومسؤولية إعلاميَّة أمامَ ربِّهم ومجتمعهم التزموها، منها بيتُ شِعْرٍ، أرفقته في الرِّسالة:

وَمَا مِنْ كَاتِبٍ إِلاَّ سَيَفْنَى                                    وَيُبْقِي الدَّهْرُ مَا كَتَبَتْ يَدَاهُ

فَلاَ تَكْتُبْ بِكَفّكَ غَيْرَ شَيْءٍ                                يَسُرُّكَ فِي القِيَامَةِ أنْ تَرَاهُ[2]

لكنَّهم لم يستحملوا عباراتٍ ضمّها، فحذفوا منها كلَّ عبارة لامست سوءة وفداحة عملهم، ثمَّ كانت هذه الرّسالة ((القُصَاصَة))، وكما هو ظاهر من محتواها، أنَّها من الأخت الكبرى، موجّهة إلى رئيس تحرير الصحيفة المعنيَّة، تتمنّى عليه أن يفسح مساحة في صحيفته لرسالة موجّهة من الأخت الصغرى إلى والدتها، وهو ما اعتبرته شهادةً {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا}. (يوسف:26)؛ حيث كانت الأخت حاضرة المحادثة الهاتفية بين والدتها وبين الصحفيَّة، وشاهدة على كلّ ردودها التي أجابت بها تساؤلات الصحفية على الطرف الآخر، ممَّا دفعها لكتابة رسالة إلى والدتها، خوفاً عليها من أن يثنيها ما حَدَثَ من إكمال الطريق، واستياءً من نعوتٍ وألفاظَ وجّهت لمن هي في نظرها الأسوة والقدوة، بالإضافة إلى كونه موضوعاً حسَّاساً، يُعنى بحياة وصحَّة مجموعة من أفراد المجتمع، فيهم من الأوجاع والآلام ما يغنيهم عن أن يُشْغل بَالَهُم ويصرف فكرهم عمَّا يهدّد صحّتهم وحياتَهم.

وراجيةً من أن يصل إلى الصحافية ذات الشَّأن، ما رأت أنَّه مخالفٌ لرسالتها ودورها كَصَحافية في توعية المجتمع، وبعيداً من أن يكون أموره الخاصة (صحَّة أفراده وحياتهم) موضع مساومة أو تسويق، وأيضاً ألاّ يُؤتى العمل الخيريّ من ثغور العاملين عليه، بمواربة للحقائق وتدليسها وإخفاء للواقع!

أضف إليك ذلك فخراً تستشعره هذه المرسلة بأخت تصغرها لم تتعدَ عقدها الثاني، ولها هذه الرّؤيا في دعم كلّ من له مساهمة إيجابية لمجتمعه مهما صغرت، فضلاً على من يهدم، وممَّن يفترض أن يكون ذلك أولى أولوياته في التَّوعية والدَّعم لكل مشروع خير ونفع للصالح العام.

رسالتها احتوت سطورها التَّالية:

——————————————–

أمّي الغَالِيَة ..

أعتقدُ أنَّك لم تَنْسَيْ شطرَ البيتِ المعهودِ، الَّذِي لمْ تزالي تُرَدّدِينَه …

يَزْدَادُ سَفَاهَةً وأَزْدَادُ حِلْماً

كَعُودٍ زَادَهُ الإحْرَاقُ طِيباً[3]

القافلة تسيرُ و ……………..

أمّي الحَبِيبَة …

فلا تجعلي أصواتَهم تُثْنِيكَ وتَهُدُّ من عزيمتك ومن ذلك المنهجِ الَّذي وَضَعْتِيه لنفسك، وذلك الطريق الَّذي رسمتيه … أنت لا تنتظرينَ من النَّاس استحساناً أو مباركة … ولكنّي قد قطعت الشكَّ باليقين بأنَّك بهذا تعملين لآخرتك ابتغاءً لوجه الله ومرضاته.

أمّي …

إنَّ أفعالك قد أغنت عن أقوالهم السَّفيهة .. والجميعُ يعلمُ من تكونين؟ وماهي غايتك؟ وأنت التي لا تنتظرين تزكية أحد ..

أنتِ أمّي الحَبِيبَة .. مفخرةُ والدَيْكِ وإِخْوَتِك … ومَفْخَرَتي ومفخرةُ إِخْوَتي …

فلا تجعلي شيئاً يُثْنِيك … ولكن لتَكُونِي قُدْوَتي الرَّائعة، وأَكْمِلي طريقَك، فالكلُّ يُقَدّرُكِ ويَعلمُ جَيِّداً أنَّك الأروعُ، وأنَّك الَّتي جمعت الدِّين والدُّنيا، فكنت بحقٍّ من تَسْتَحِقّين العيشَ، وإنَّ البشرية تستفيدُ منك، ومن يسرّ الله له الحقَّ والفوزَ، كما يسرّه لك، إنْ شاء الله، فإنَّه سائرٌ معك على هذا الدَّرب … وإنّي لأتمنّى أنْ أسيرَ على خُطَاكِ … فقط ليشعرَ الجميعُ – جميعُ أحبابي – بما أشعرُ به كَوْنَك أمّي … وجَمَعْتِي بينَ العديدِ من الصِّفَاتِ الَّتي قلَّما اجتمعتْ بِشَخْصٍ.

وإنّي لأعلمُ مِقْدَارَ السَّعَادَةِ والفَخْرِ الَّذي سيحسّونه ويشعرون به، كَوْني أنْتَمِي ِإلَيْهِم…

الحياةُ مليئةٌ بالعَثَرَاتِ، وطريقُكِ هو الأصعبُ والأكثرُ تَعَثُّراً … وإنّي لأذكرّك … ((حُفَّتَ الجَنَّةُ بِالْمَكَارِهْ))[4].

 لكلّ شيءٍ معوّقات، ولكنَّ مَنْ يَسَّرَ اللهُ له، فَلْيَعْلَمْ كيفَ يَستفيدُ من هذه المعوّقاتِ، ويجعلُها معه في نَفْسِ التَّيَّار …

ولا تجعلي تلك الأساليب … تعوقك … وليتصدّى لها حُلُمُكِ … وكَظْمُكِ للغَيْظِ .. لتكوني من المُحْسِنَين …

فإلى الأمامِ أمّي الغَالِيَة ..

وَلْيَرْعَاكِ اللهُ وليسدِّد خُطَاكِ ..

ويوفّقك لما يحبّه وَيَرْضَاه …

ويجعلك ذخراً لهذا الوَطَن .. ولهذا المجتمعِ الَّذي يحتاجُ إليكِ ولِأمْثَالِك .. فَلاَ تَحْرِمِيه ..

ابْنَتُكِ المُحِبَّة

     …………………

الثَّلاثَاء 24/4/2001

وخَتَمَت الرِّسالة الَّتي وجَّهتها الأختُ الكُبرى للصحيفة بالتَّالي:

هذه شهادةٌ من أهلِ بَيْتِها، وإنّي لَعَلَى يقينٍ بوجود شهاداتٍ أخرى … فهلاّ أدركتُم فداحةَ الخطأ!

   المرسلة

………………

27/4/2001م

وبقدر ما أزعجني هذا الموضوع، جاءت هذه القُصَاصَةُ كالبَلْسَمِ على القَلب؛ مطمئنةً له، ولزيادة الثّقة بجيل ننتظره، ليخلفنا وعياً وإدراكاً وتفاعلاً مع سلطة هي من أقوى السّلطات في تحريكها للرَّأي العام، والخوف عليها إذا جُرِّدت من دورها، فجعلتها تجارةً فقط، وتَنَاسى صَحَافيّوها رسالتَهم، فجعلوها وظيفةً فقط!

لذلك سعادتنا بجيل نرى فيه ثقافة ووعياً ومجابهة للباطل وكشف زيفه وخطره ومحاربته، ثقة بأنَّ الحقَّ هو الأبقى، مهما كان الباطل أقوى.

[1]  أخرجه أبو داود في سننه عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وقال الألباني: حديث صحيح.

[2]  من قول الإمام الشافعي، رضي الله عنه.

[3]  البيت من ديوان الإمام الشافعي، رضي الله عنه.

[4]  عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ((حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ)). أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.

النشرة البريدية

اشترك فى النشرة البريدية لمعرفة كل جيد عن الدكتورة نورة