مُحتوى القُصَاصَة

 

 

يا عمّي جابر، اللهُ يُدْخِلُك الجنَّة، حَرَمَتْنا معيذر من شُوفتك، كريمٌ وحبوب، أنت رحت الصُّبح تدفن واحد، والليل أنت مِت سكتة قلبية، يا سبحانَ الله، الله وفّق كلّ معيذر تصيح عشانك، غِبْت عنَّا، مشتاق حقّ بسمتك، الله يحبّك وكلّ النَّاس تحبّك، أنت أحسنُ عمٍّ عندي، ورحت عندك في البَر، وسمعتك تؤذّن، وهذا كلّه خيرٌ، الله يرحمك.

23/5/2011م

 

قِصَّة القُصَاصَة

كان ذلك في صيف عام 2011م، وكان صاحبُ القُصَاصَةِ طفلاً لم يتجاوز التَّاسعة من عمره، إلاَّ أنَّ رحمة الله وسعت كلَّ شيء، وتقاسمتها جميعُ مخلوقاته، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}. (الأعراف:156). قال ابنُ عبّاس: ((جعلها الله لهذه الأمَّة)).

وكان لقلب هذا الصبيُّ منها النصيبُ، فلا عجبَ أن يفجع قلبُه لوفاة عمِّه، وفاة يتألّم القلبُ من وَقْعِها، وينفطر فؤادُه على فقيد قريب ورَحِمٍ موصولة بحبل الله تعالى، فهو سبحانه وتعالى من جعل حبّهم وودّهم فطرة مكنوزة في القلوب.

وتتجسّد هذه الفطرة الإيمانية في تعابير هذا الصَّبيِّ الصَّادقة وكلماته القليلة المعبّرة، في عمق هذه الصِّلة الوجدانية مع رحمٍ له، قد وفقّه الله سبحانه في ترك بصمة حبّ ومشاعر إلهام لعمل صالح في حياة هذا الطفل، يذكره بها ويشكر بها صنيعَه، وقد شكر الله لعباده ذلك ووصف نفسه: {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا}. (النساء:147).

لقد ترجم هذا الصبيُّ حبَّه لعمِّه بكلماتٍ لا تكاد تقرأ، لقلّة سنين عمره، فضلاً عن سنوات تعليمه، وممتنّاً وشاكراً لعمِّه (رحمه الله) سويعاتٍ جميلة قضاها بصحبته، في رحلة بريَّة رَفَعَ فيها الأذانَ للصَّلاة، وما أدراك ما عظيم أثر شعيرة الأذان وعبادة الصَّلاة في حياة الفرد والمجتمع، فقد قال الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: ((وجعلت قرَّة عيني في الصَّلاة)). (رواه أحمد والنَّسائي وصحَّحه الألباني).

 ومعظّماً ذلك الفتى لعمِّه (رحمه الله) عملاً قام به، قبل سُويعاتٍ من وفاته (تقبَّل الله منه)، وكان ذلك آخر أعماله، وهو حضورُ جنازةِ صاحبِه ومراسمِ دفنِه، حيثُ كان الفاصلُ بين ذلك وبين اللِّحاق بصاحبه لا يتجاوز السَّاعات الأربع، وما أدراك ما عظيم أجر وثواب حضور الجنازة والصلاة عليها، فقد قال الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم ((مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ تَبِعَها حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيراطانِ)). (أخرجه مسلم في صحيحه).

إنَّها القدوة الحسنة العبرةُ الهادية والأثرُ الطيّب حين يترجمها القلب إلى كلمات ومشاعر، لترسم معالم الإنسانية لدى الناس جميعاً، من خلال جسد يختزن مضغة حفظها من أن يطّلع عليها أحدٌ أو يصل إلى مكنونها بشرٌ، إلاَّ أن تفرَّغ في كلمةٍ جميلة وعبارة لطيفة يطرَبُ بها السَّمع وينشرح لها الصَّدر، أو تكتبُ على ورقة بيضاء كبياض القلوب، تسرُّ النَّظر بنصاعتها وتملأ القلب بجمالها، فمن الجميل أن تعبّر بأحاسيسَ وتبعث بكلمات وتبثّ مكنونات قلبك، ليفهمها كلُّ من حولك ويسعدَ بوَقْعِها وجمالِها وأثرِها في كلّ من يطّلع عليها.

هذه القُصَاصَةُ في حقيقتها شهادةٌ خطَّها طفلٌ بفطرته، ودوَّنها بحروف إخلاصه، وسطّرها ببراءة قلبه، وإن شاء الله، ستكون لصاحبها، كما كانت له شهادة في الدّنيا، ستكون له شهادة، بإذن الله، في الآخرة ترفع بها درجتَه، وتُعلِي مقامَه عن ربّه، قال الله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}. (البقرة:143).

الخلاصة: فهنيئاً لمن ترك بصمةَ عملٍ وأثراً صالحاً وذكرى هادية لمن شاركهم حياتهم أو عاش معهم أمنياتهم وآمالهم، وإن كانت في فتراتٍ وجيزة وأيامٍ أو ساعاتٍ قليلة، وهنيئاً مرّة أخرى، لمن احتفظ له بذكرى لم يدركها حيّاً، ولكن بقيت إرثاً خالداً ومَعْلَماً هادياً، وكانت للترحّم عليه سبباً، ولرفع الدَّرجات في الآخرة سبيلاً.

لتحميل القصاصة القصاصة الثَّالثة

النشرة البريدية

اشترك فى النشرة البريدية لمعرفة كل جيد عن الدكتورة نورة