قِصَّة القُصَاصَة

قُصَاصَةٌ وجدتها على مكتبي في الجامعة، كانت صاحبتها حريصة ألاّ تسلّمها باليد، بل لتفاجئني بها، ساعيةً إلى كسب رِضًى، خافت أن يكون قد شابَهُ ما يعكّر صفوَه، بعد حوار ذات مساء، أحسَّت أنَّه لم يَرُقْ لي.

قُصَاصَةٌ لم تحمل توقيعاً أو تاريخاً، ولكنَّ الكتاب بدا من عنوانه، نصٌّ انتقت عباراته، وخطٌّ جَمَّلَه أناملُ صنعت كلماتِه. أمَّا تاريخها فهو السَّنة الأولى لدراستها الجامعيَّة، يوضّح ذلك ما دُوّن من تاريخٍ أعلى القُصاصة.

إنَّها الابنة الكبرى، باكورة الحياة وسعادتها، وفِلذة الكبد التي مشت على الأرض، وريحانة الفؤاد وبلسم الحياة، جاءت بالبهجة معها للعائلة بأكملها؛ فقد كانت الحفيدة الأولى لهم، تربَّعت في القلوب وأدخلت عليهم السّرور، حبانا الله بها في طفولة لها متميّزة، في بركةِ تربية، وفطنة مُبهرة، وأدب طفوليّ مُلفتٍ، إذا قيس بقريناتها أو سنين عمرها.

 لحقت بها أخواتها، فكنَّ الغِبْطة الدَّائمة لنا، لما نرى من عونٍ من الله في تربيتهم، واصطفاء الله لهنَّ في طباعٍ هادئة جُبِلوا عليها، وسهولة في تعليمهنّ، كنَّ البلسم لكلّ جهدٍ تَطَلَّبَهُ تكوين الأسرة في بدايات مسيرة الحياة؛ من التزامات وظيفية ومشاريع دعوية وتطوير علميّ ومشاركات مجتمعية، فكنّ لنا خلالها ((زهرات السّنين)).

لقد قدّر الله سبحانه وظهرت حكمته جليَّة، في أن نرزق بهنّ في ثمانينيّات القرن الماضي، مرحلة من التاريخ عصفت بالخليج؛ في الحرب (العراقية -الإيرانية)، وحادثة (جُهيمان) في الحرم المكي، وبدايات الصَّحوة المباركة التي احتضنتها القلوب بحرارة وتبنّتها البيوت وتفاعلت معها بحماسة، فدفعتنا أحداثٌ نشهدها ونتفاعل معها، إلى إدراك  قيمة المسؤولية اتجاه أسرٍ وبيوت نريدُ حمايتها من معاول الهدم المنتشرة ومظاهر الفتن البادية وأساليب الإغواء الرّائجة، من أفكار وبرامج وبدون فلترة لما يُنشر أو يُذاع أو يُتلّقى منها، ودون تمييزٍ وفرزٍ وتبيّنٍ للمُهِم والأهمّ منها، وِفْقَ فِقْهِ الأولويات الذي هو من مَعِينِ ديننا وحقيقة شريعتنا.

ومن هنا كان التحرّك والتفاعل وسط هذه الأحداث، من منطلق المسؤولية، وفي ضوء هذا الفهم ومنهجه، كما أكّده الدكتور حسَّان حتحوت[1]، عندما قال: (إنَّ الدَّعوة إلى الله أعمال وفضائل وقدوة تقدح شرارة في النّفوس المظلمة)[2]، وفي قوله رحمه الله: (إنَّ المسلمين ضيَّقوا الإسلام، فجعلوا منه لحية وحجاباً، وضيَّقوا الشريعة فجعلوها قانونَ عقوبات، ولم يفهموا أنَّ الشريعة رحمةً في حقيقتها)[3]؛ فالإسلام روحٌ وتشريعٌ، وعبادةٌ ومنهجٌ، وهو منظومة متكاملة لكل ما يتعلّق بالإنسان والكون والحياة.

لازلتُ أذكرُ حضوري لمحاضرة تربوية في إدارة الدَّعوة، كان موضوعها عن (التربية الأسرية)، قدّمتها الأستاذة بدرية العزاز، وكانت صاحبة القُصاصة بصحبتي، وكنتُ سعيدة جداً بكلّ ما تطرّقت له الدَّاعية، لثقتي بأنَّه مطبَّقٌ في حياتنا.

لكنَّ الرّدَّ كان صادماً، عندما أومأت ابنتي برأسها نافيةً ذلك، وقد كنت سألتها عن رأيّها في المحاضرة، وهل ترى ما ذكرته المحاضِرة مطبقاً عندنا؟

وقتها أدركت حجمَ التَّفاوت في وجهات النَّظر وآلية التقدير، والاختلاف في التّقييم والحكم على الأشياء، من خلال إدراك كُنْهِ بعضِ التّصرّفات، ومعرفة واقع النَّاس وطبائعهم!

ولكنَّ ثقتنا كبيرة وعميقة في أنَّ الجيل الَّذي تزرعه يدُ الله، ويرعاه بيانُه وتحميه تشريعاتُه وتضبطه توجيهاتُه، لا تحصده يدُ الإنسان، ولا يكون لها الأثر في إفساد فطرته الّتي فطر الله النَّاس عليها، إنَّها صبغةُ الله: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}. (البقرة:138).

لقد جاهدنا في ميادين التَّربية المختلفة، وبذلنا فيها الجهدَ -وإنْ كنّا قد تجاوزنا فيه، ولمسنا بعد ذلك جوانب الإفراط والتفريط-إلاَّ أنَّنا نحتسبُ ذلك عند الله، ونرجو أن يكون عذرنا عنده أولاً، ثمَّ عند من استرعانا إيّاهم، أنَّنا اجتهدنا ولكلّ مجتهدٍ نصيبٌ، وأنَّنا أخذنا بالأسباب في الإحسان إليهم، رعايةً وتربيةً واهتماماً وتوجيهاً، ولم نترك كتباً ومناهجَ تربوية إلاَّ قرأناها، ولا دوراتٍ تُعنى بالتَّربية إلاّ حضرناها، وقبلها وبعدها، سجداتٌ وقُرُبَاتٌ توسّلنا بها  إلى ربّنا الخالق الحافظ، بأنْ تقرَّ الأعينُ بصلاحهم وإصلاحهم.

 وكثيراً ما أجدُ العزاءَ وأيضاً السّرور عند قولهم: إنَّ من خيرِ الهِبات الَّتي اكتسبوها في طفولتهم هو تعليمُهم ((كتاب الله))، وهو السرُّ الذي ميّزهم في دراستهم وفهمهم وثقافتهم، وهو السرُّ في تفوّقهم وإبداعهم ونجاحهم في وظائفهم، وهو السّرور الَّذي أسعدني بقدر العَتَبِ الَّذي أحزنَ القلبَ في إلزامهم النّقاب وبعضهنّ لم يتجاوزن العاشرة!

 لقد عانوا من مقارنات المجتمع لهم بوالدتهم دون اعتبار لسني أعمارهم، ودون تبيّن لأسس وأصول دينهم، أرادوا من الجيل نسخاً مكرّرة، وحصروا الدين في أشكال معدودة وطقوس معيّنة.

إنَّ نسجَ المقارنات بين جيل الماضي وجيل اليوم، ومحاولات تصنيف النّاس في الالتزام بالفضائل أو التحسينيات غير الواجبة، هو أسلوب غير ناجع في العمل التَّربوي والدَّعوي، لأنَّه يرخي بظلال سلبية ويرسّخ معاناة عميقة لدى الأولاد والأبناء، بالإضافة إلى أنَّها مقارنات مُجحفة، دون اعتبارات لتغيّر الأزمنة، وقد صدق من قال: (لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنَّهم مخلوقون لزمان غير زمانكم)، بل إنَّ ذلك مخالف لروح الشريعة ومقاصدها، فمن سنن الله الكونية في خلقه اختلاف ألوانهم وطبعاهم وأفهامهم، قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ و َلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}. (هود:118).

وهذا الاختلاف نوعٌ من الثراء البشري، في الفكر والعطاء والإبداع، فكان فضل الله عليهنّ عطاءً متميّزاً لمجتمعهم وجيلهم، علموا حاجاته وثغراته، فنصبّوا علمهم وجهدهم، وسخّروا فكرهم وإبداعهم ليكونوا أحدَ حُرَّاسه، كلٌّ في مجاله واختصاصه.

أدركنا في خضم ذلك كلّه، الحاجة الماسّة إلى تقديم الإحسان على البيان، وأن نتلطَّف قبل أنْ نُصنِّف، وحاولنا أن نكون القدوة لهم في سلوكنا ومعاملتنا، حتّى إننا وجدنا خلال هذه الفترة أنَّهم هم الَّذين يُربّوننا، ولسنا نحن الَّذين نُربّيهم، إيماناً بأنَّ القدوة قبل الدَّعوة.

ثمَّ تجاوزنا الاهتمامَ المظهريَّ الذي نؤمن أنّه لا يقدّم ولا يؤخّر في تحقيق النّتائج وجني الثمار، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))[4]. وجعلنا الهدفَ قلوبَهم، وسعينا في تغذيته وإروائه وربطه بحبل الله المتين؛ كلام الله سبحانه، دستور ومنهاج الحياة السَّعيدة.

آمنا في هذا الطريق بلزوم المحبَّة والصَّبر على التَّربية، والاستمرار ومتابعة هذا المنهج التربوي، عملاً بأمر الله تعالى: {وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}. (طه:132).  وعملنا على بثّ الثّقة بالنّفس وتحمّل المسؤولية قبل مرحلة التَّكليف؛ فالثقة بالنَّفس قيمة تربوية عليا، وهي أساس نجاح الإنسان في حياته وعلاقته مع الله ومع العباد، وفي هذا العمل نستهدي بما جاء في كتاب الله الكريم، في صناعة موسى عليه السَّلام: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي}. (طه:39).  وقال سبحانه: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}. (طه:40). ممّا يقتضي مزيداً من المحبّة والرّعاية والاهتمام والتوجيه.

 معالم ثلاثة أظهرناها في البيت، هي أركانه وأساس لبناته؛ من سكينة ومودَّة ورحمة، {لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}. (الروم:21)، ففي هذه الآية يحدّد الله سبحانه أسس النظام الإنسانيّ ومنطلقاته، والَّذي وضعه ذلك الدّين القيّم من خلال بيانه وأحكامه وتشريعاته، وأرسى بها وجود هذا النّظام وتنظيم علاقاته واستمراره وديمومته، كلّ ذلك مستمدٌ من نقاء وصفاء الفطرة التي فطر النَّاس عليها وتوجيهات الدين القيّم: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}. (الرّوم:30).

ومن هذا المنطلق نسعى في حياتنا إلى تحقيق وظيفته السَّامية وأداء رسالته القيّمة، وذلك في بيئة حرصنا على إرساء رُكنَيها من الحرية والكرامة لتستقيم أخلاقهم، وسعينا إلى توفير وتمهيد سبل الهداية والسَّعادة، وذلك بصنعها وتجسيدها في أشخاص هم أرواحنا، سعادة تجعلهم يعيشونها في مختلف ظروفهم، ورحمة ومودّة يستشعرونها في حياتهم وينشرونها في بيوتهم وبين النَّاس.

أخيراً، وإنْ كانت حقيقة وجوهر هذه القُصَاصة، تحمل مشاعرَ صبيَّة لم تتجاوز العشرين من عمرها، إلاَّ أنَّها هيَّضت مشاعرَ ((والدّية)) فطرية لا مساومة عليها، نرى فيهم الشَّمس المضيئة لنهارنا وغدنا ومستقبلنا، والقَمَرَ الَّذي ينيرُ دروبَ ليالينا.

نرى أنَّ العطاء والإنجاز والإبداع لهم، ولا نملك المكافأة والمجازاة صنيعَ ما فعلوا، ولا جزاءَ له إلاَّ من الله سبحانه، فهو العليمُ بها والقادر عليها، الَّذي يجازي بالإحسان إحساناً وزيادة.

 أمّا نحن، فبسعادتهم وسرورهم، كلُّ الجهد والتَّعب يتلاشى أمام وجوههم البَاسمة وأرواحهم الهانئة، وأمام كلّ سرورٍ وبهجةٍ يرونها ويعيشونها في مسيرة حياتهم، كما قال الشَّاعر[5]:

بَصُرْتُ بالرَّاحة الكُبرى فَلَمْ تَرَهَا        ***        تُنَالُ إلاّ على جِسْرٍ من التَّعِبِ

فالرّاحة الكبرى هنّ صنيعتُها، ونحن كنَّا جسراً لهم لتحقيق ونيل سعادتهم ونجاحهم في الحياة:

 ((هُنَّ حصيلةُ السِّنين، بل هُنَّ زهورُها))

 

هَمْسَة:
 

الجيلُ الفاضل يُصنع بحسنِ ظنٍّ وتفاعل متفائل مع فطرتهم الإنسانية، وعمل دؤوب هادف لاستخراج خيريتها من النفوس والعقول، ومنهج راشد لإزاحة العوائق والتحديات من أمامها، وتقديم البدائل النَّافعة لها.

***
 الإكراهُ على الإيمان لا يصنعُ إنساناً مؤمناً.

***

الإكراه على الفضيلة لا يصنعُ إنساناً فاضلاً.

***

أساسُ المسؤولية حريّة نفسية وعقلية.

[1]  هو طبيبٌ وشاعر وأديب وداعية مصري أمريكي، عمل في تخصّصه الطبّي في أكثر من بلد عربي، اشترك في حرب فلسطين 1948م طبيبًا، وعمل في مجال الدعوة إلى الله في الولايات المتحدة الأمريكية، وله العديد من المؤلفات منها: (رسالة الى العقل العربي المسلم)، و(بهذا ألقى الله)، و(طبيّات إسلامية)، توفي بتاريخ 26-4-2009م، ودفن بمدينة لوس أنجلوس.

[2]  ينظر: كتاب (بهذا ألقى الله)، للدكتور حسان حتحوت، رحمه الله.

[3]  ينظر: كتاب (رسالة الى العقل العربي المسلم)، للدكتور حسان حتحوت، رحمه الله.

[4]  رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[5]  البيت للشاعر حبيب بن أوس بن الحارث الطائي، (أبو تمّام)، من شعراء العصر العبَّاسي، توفي عام 231 ه.

النشرة البريدية

اشترك فى النشرة البريدية لمعرفة كل جيد عن الدكتورة نورة