قِصَّة القُصَاصَة 

قُصَاصَةٌ دَوَّنتُ فيها ما جاء ببطاقة تهنئةٍ بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، وصلت إلى يد ابنتي مرفقةً بهديَّة من إحدى صديقاتها، فبقدر حبٌّ أكنّه لصاحبه البطاقة وفرحي وسعادتي بهذا النَّوع من الصداقات والصَّديقات، بقدر ما شدَّتني عباراتٌ ضمّتها هذه البطاقة الجميلة، بجميل كلماتها المعبّرة، وغزارة معانيها الهادية، وعظيم دلالاتها الإيمانية، وعميق تأثيرها في نفسي من أول جملة فيها وقعت عيني عليها، فتمكّنت من شِغَاف القلب ومكنون الرّوح.

ومن شدّة الإعجاب وجميل التأثير، قمتُ بنقل محتواها على هذه القُصاصة التي ترونها، واحتفظت بها كذكرى غالية وتذكير هادف ونصيحة هادية، تأسياً بإشارة التعبير القرآني {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}. (ق:37)، لأتذكَّرها في مسيرة هذه الحياة، وكلَّما تفضَّل الله علينا بالعمر فيها، وأظلنا هذا الشهر الفضيل كلَّ عام، وبدأنا الاستعداد له بأرواحنا ومشاعرنا لاستقبال نفحاته وبركاته وخيراته، عملاً بتوجيه الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: ((إِنَّ لِرَبِّكُمْ عزَّ وجلَّ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لَهَا، لَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ تُصِيبَهُ مِنْهَا نَفْحَةٌ لا يَشْقَى بَعْدَهَا أبدًا))[1].

كلَّما نظرتُ إلى هذه القُصاصة، تبادر إلى ذهني وتصدّر في قلبي صدى آية كريمة من كتاب الله ربّ العالمين، كثيراً ما ردَّدناها مستفتحينَ بها محاضراتنا ولقاءاتنا وأحاديثنا في استقبال شهر رمضان المبارك، آية محكمة من الذّكر الحكيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. (البقرة:183).

وعلى قدر عظيم الدّلالات والأحكام التي حوتها هذه الآية الكريمة؛ من افتتاحها بنداء إلهيّ شرفنا به الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، ثمَّ بمواساة ربَّانية يقدّمها سبحانه لعباد خلقهم لطاعته: (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ)، إلاَّ أنَّنا نقفُ منصتين خاشعين أمام كلمة خُتمت بها الآية الكريمة، وحدّدت معالم الهدف الأسمى من هذه الشعيرة الَّتي كُتبت على هذه الأمَّة إلى يوم الدّين؛ إنَّها جملة: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، كلماتٌ تخترق القلوب وتهزّ الوجدان وتحرّك العقول، لتدرك هدفاً أسمى ، تجاوز الأبدان ومادتها إلى معالجة روحها، به تسمو وتتقرّب إلى خالقها.

تذكَّرت هذه الجملة {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وأنا أقرأ محتوى تلك البطاقة، وكأنّي أجدُ فيها المعنى الحقيقي لهذه الكلمة العظيمة والغاية النبيلة التي شرع الصيام من أجلها، فكأنَّ هذه الشَّعيرة ((الصّيام)) ما شرعت إلاَّ لمعالجة أمر منوط به القلب، تلك المضغة الَّتي تحدّد نوعية جواز سفرك، وبها يحدّد مستقبلك ومستوطنك ((جنَّة أو نار)).

 

تلك المضغة والقطعة من الجسد، وضعت لها علاجات كثيرة وجرعات دوائية مختلفة؛ منها ((الصِّيام)) كدورة استشفائية ربانية ومحطّة تأهيلية إلهية، لترتقي بها إلى تقوى، جائزتها أكبر وأعظم شهادة هي: ((العتقُ من النَّار)).

إنَّ في قلوبنا الدَّاخلية ((مُضْغَةً))، عندما تتلّبس وتلتزم بمعاني ودلالات تلك الشعيرة الرّبانية، تُحقّق وتصل إلى مقام التَّقوى، لتكتسي به حلَّة جميلةً وتاجَ الوقار والسَّكينة، عنوانُه الخلقُ القويم والمعاملة الحُسنى.

فالعباد في ميدان تسابق إلى مراتب التقوى {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} حيث يقول الصحابي الجليل أبو الدَّرداء، رضي الله عنه: (حقيقة التَّقوى أنْ يتّقي العبدُ ربَّه حتَّى تيقية من مثقال الذَّرة).

 أمَّا الأعرابيُّ، فقد عَرّفها بعلمه البسيط، عندما سُئِلَ عن التَّقوى، فقال: ((شُوف حَالَك لما تكون لَحَالَك)).

لقد أدركت صاحبة البطاقة عظمة هذا الشَّهر، ووجدت أنَّه من أعظم مناسبات الصَّلاح والوصال؛ فهو موسم مهيَّأ للبر والصلة وحسن الخصال في علاقات الإنسان بنفسه وبالأهل والأرحام والأصدقاء.

 ففيه الخيرات المهيَّأة للإنسان والعروض الرَّبانية، لا يُفرِّطُ فيها إلاَّ محروم، كما في الحديث النبويّ الشريف: ((صعِد النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المنبرَ، فقال: آمين، آمين، آمين، فلمَّا نزل سُئل عن ذلك، فقال: أتاني جبريلُ، فقال: رغِم أنفُ امرئٍ أدرك رمضانَ فلم يُغفرْ له، قُلْ: آمين، فقلتُ: آمين))[2]، ففي هذا الحديث الشريف دلالةٌ عظيمة على الاجتهاد والتَّشمير للعبادة في شهر رمضان.

وَجَدَت صاحبةُ البطاقة أنَّ هذا الشهرَ العظيم عيادة نفسية متكاملة؛ علاجاتها مهيَّأة، وآثارها مؤكدة، تهيَّأت عناصرها وفعالية أدواتها، ففيه سكينة تتنزَّل، وشياطين تتصفَّد، ونفحات تُسْجى، ورحمات تُغشى، وأرواحٌ تسمو، وقلوبٌ تتدبّر وتستمتع.

 بها تتحقَّق ((التَّقوى)) في حسن خلق، هو أزكى وأعلى أعمال البرّ وعلامات التَّقوى، وقد عُرِّف البِرُّ بأنَّه حسن الخلق، عن النَّواس بن سمعان رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ((البِرُّ حُسن الخُلق))[3].

فكما أنَّ التقوى صلاحُ العبد بينه وبين ربّه، فإن نتائجه حسن خلق في صلاح بين العبد وبين عباده، وقد كان ذلك هو الهدف السَّامي الَّذي جاء محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلم: ((إنَّما بُعِثْتُ لأتمِّم مكارمَ الأخلاق))[4].

إنَّ ((حُسْنَ الخُلق)) في ميادين البرّ والصّلة وتأثيراته، لا يقتصر على من وُجد حولك، بل يتعدّى إلى كلّ من كانوا معك في فترة من فترات حياتك، تتذكّرهم في أشخاصهم، سواء من غيَّبتهم مشاكل الحياة أو غابوا عنك بحكم القدر؛ فالفريق الأوَّل حقّه الوصل بأنواعه، والآخر حقّه الدُّعاء والصَّدقة، كما بيَّن ذلك صلَّى الله عليه وسلم بقوله: ((إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له))[5]؛ ففي هذا الحديث بشارةٌ منه عليه الصلاة والسَّلام لنا، وبثٌّ للأمل في نفوسنا، بأنَّ الصَّدقة الجارية تأتي في أوّل أعمال الخير التي لا ينقطع ثوابُها بعد الوفاة، وفي كلّ أعمال البرّ والصّلة خيرٌ وبركة.

لقد اختصرت هذه البطاقة أو ما دوَّناه منها على قصاصتنا، كلَّ ما حاولنا توصيله خلال دعواتنا المتكرّرة على مدى السَّنوات المتعاقبة، وعسى أن يجعل في هذه السطور بركة في الأثر وزيارة في التوعية والبيان، لإرجاع البوصلة إلى الوِجْهة الحقيقية والفهم الصَّحيح لمعاني ودلالات هذا الشهر العظيم، ولكل من يبلغه أو يظفر بنعمة إدراكه وشهوده.

إنَّه العطاءُ الجزيل لمن يشهده، وقد بيَّن هذا الفضلَ حديثُ الرَّسول – صلَّى الله عليه وسلَّم: ((كان رجلانِ من بَلِيٍّ حَيٍّ من قُضاعةَ أسلَما مع النبيِّ صلَى اللهُ عَليهِ وسلمَ، واستُشهد أحدُهما، وأُخِّر الآخَرُ سَنَةً، قال طَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللهِ: فأُريتُ الجَنَّةَ، فرأيْتُ المؤخَّرَ منهما، أُدخل قبل الشهيدِ، فتعجبتُ لذلك، فأصبحْتُ، فذكرْتُ ذلكَ لِلنَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، أو ذُكر ذلِك لرسولِ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: أليسَ قد صام بعدَه رمضانَ))[6]، ارتقى به هذا العمل، ليفوز بتلك المنزلة في جنَّات ربّ العالمين على صاحبه الَّذي استشهد في سبيل الله.

إلاَّ أنَّنا نجدُ أنَّ هناك ترابطاً وثيقاً بين عبادة الصيام وعبادة الجهاد في سبيل الله، لأنَّ كليهما مرتبطٌ بالجسد والرّوح والنَّفس، ونجد كذلك أنَّ معظم انتصارات المسلمين في معاركهم وجهادهم كانت في هذا الشهر الفضيل، وهي كثيرة سيرة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم وفي التاريخ الإسلامي، منها غزوات: (بدر الكبرى، والخندق والفتح وتبوك)، ومنها معارك: (القادسية، وفتح بلاد الأندلس، وعين جالوت، وحطّين).

إنَّه الشَّهرُ الفضيلُ الذي ثوابُه عظيم، لدرجة أن تفرّد به سبحانه وتعالى، ففي الحديث القدسي: ((كلُّ عمل ابنِ آدم له إلاَّ الصوم، فإنَّه لي وأنا أجزي به))[7].

إنَّه الشَّهرُ العظيم الَّذي ثوانيه ودقائقه أثمنُ من أن تضيَّع في غفلة، فضلاً عن أن تضيَّع في لهوٍ أو إثم.

 إنَّه الشَّهرُ المباركُ الَّذي يجب ألا نستسلم ونسلّم أنفسنا لكلّ لاهٍ أو ملهيّ قد ضلَّ طريقَ الفلاح والفوز في مواسم الخيرات.

فلا بدَّ من تكاتف الجهود والأدوار، وتكثيف البرامج الهادفة والمشاريع النافعة والأنشطة الهادية، لإنارة الفكر وتهذيب النفوس وتعزيز الصلة بالله، في هذه المواسم المباركة، ليس لفردٍ بعينه، ولكن للمجتمع بأكمله، وأن تتضافر جهود الخيرين في هذه الأمَّة المباركة، لتتصدّى لكل تيَّارات تريد أن تجذب اهتمام النّاس وخصوصاً جيل اليوم من الشباب، لأمور ليس الشَّهر الكريم وهذه المواسم هي وقتها.

لقد وجَّه أعداءُ الإسلام وأدواتهم من بني الإسلام المفسدون سهامهم المسمومة، وبذلوا كلّ جهودهم وطاقاتهم لينالوا من الأمَّة، فاستهدفوا أقوى خطّ لدفاعها ومكمن قوَّتها، فجعلوه هدفاً حرصوا على تدميره في خطوات للشيطان متلاحقة، عندما عجزوا أن يأتوه عقيدة في قلوب أصحابه، فجنَّدوا شياطينهم وزبانيتهم لإغرائهم في تتبع خطواته، فوجَّهوا المجتمعات ليكون الشَّهر الفضيل ميداناً للتَّنافس في أنواع الأطعمة وأوعيتها وتبادلها بين البيوت، تعاونهم في ذلك ترسانات إعلامية وتجارية وبخطوات شيطانية تحيد بهم عن حقيقة الشهر وروحه من قلَّة للطعام وإطعام للمساكين، ليكون مجاملاتٍ مجرّدة لتحقيق مآرب نفسية ومظاهر اجتماعية؛ وجعل الشهر الكريم بازاراً لاستعراض الملابس والأزياء، والأولى به عرض مافي خفايا النفوس لمعالجتها والارتقاء بها .

ثمَّ حادوا به عن هدفه في تحقيق ((التَّقوى))، فجعلوه مهرجاناً للأعمال الفنية، يعرض فيه كلّ عمل، حظّها قليل في مرجعية ذات دين أو مبادئ وقيم عن طريق حواسٍ وجوارح هي مداخل القلب فيسبّبوا ضلاله وغفلته.

إنَّها الخسارة للحياة الدُّنيا والآخرة، عندما تنظم وتجدول من قبل مؤسسات لا تدرك عظم جرمها سواء كانت مؤسسات إعلامية أو سياحية أو فندقية أو تجارية أو غيرها، والمستهدف فيها بيوت وأفراد ومجتمع يدينون لله تعالى بالإسلام، وقد نزل القرآن الكريم بلغتهم، فيه آيات تتلى وأحكام تذكر بينهم.

وفي الجانب الآخر، لا ينكر المرءُ جهوداً مباركةً تُبذل، ومساعي حميدة تُصنع، وأعمالاً حثيثة تقدّم في الأخذ بأيدي النَّاس للفوز بالعطايا الجزيلة في شهره الكريم، ومع أنَّ المعركة غير متكافئة، فلدعاة الباطل جيّوشٌ جرَّارة، تساندها تقنيات متطوّرة، وتدعمها أهواء ونفسيات ميَّالة لكلّ ذلك، إلاَّ أنَّ عدّتنا ربٌّ توعَّد بإظهار دينه، وأنَّ العاقبة للمتقين، كما قال سبحانه: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}. (الأعراف:128).

 وإيماناً بأنَّ لله عباداً توَّاقون لطاعته، كما وصفهم الإمام الشافعيّ، رضي الله عنه بقوله:

 

إِنَّ لِلَّهِ عِباداً فُطَنا     ***   تَرَكوا الدُنيا وَخافوا الفِتَنا

نَظَروا فيها فَلَمّا عَلِموا    ***   أَنَّها لَيسَت لِحَيٍّ وَطَنا

جَعَلوها لُجَّةً وَاِتَّخَذوا   ***   صالِحَ الأَعمالِ فيها سُفُنا

 لهم أرواحٌ سبَّاقة إلى كلّ خير وعمل صالح مبرور، ليكون موعدُهم هناك في جنَّات الفِردوس، يتنافسون لولوجها برحمته والفوز برؤية وجهه الكريم، وعسى أن يكون للأمَّة أوبة عاجلة، يتعرَّضون فيها لنفحةٍ من نفحات رحمته، فيعرفوا لهذا الشهر فضلَه ومكانتَه، متضرّعين لله بأقوى الأسلحة، دعاء تُقرع به أبواب السَّماء، لتبلغ به الأمَّة نصرَها الموعود والتمكينَ للصَّالحين من عطاياه، وأن يكون لصاحبة البطاقة من عطاياه ومحبَّته النَّصيب الكبير والحظ الأوفر.

 

هَمْسَة:

رمضان إذا أدركته، فلا تستبدل الَّذي هو أدنى بالَّذي هو خير؛ فقد يكون ميدان التَّسابق فيه، إحرازاً لفضائله وبركاته وتزوّداً بنفحاته وعطائه الفرصةَ الأخيرة لك هذا العام.

[1]  أخرجه الإمام الطبراني في (المعجم الكبير) عن محمد بن مسلمة رضي الله عنه

[2]   أخرجه الإمام البزّار والطبراني.

[3]   أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.

[4]  رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[5]  أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[6]  أخرجه الإمام أحمد في مسنده واللفظ له، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[7]  أخرجه الإمامان البخاري ومسلم، واللفظ للإمام مسلم.

النشرة البريدية

اشترك فى النشرة البريدية لمعرفة كل جيد عن الدكتورة نورة