قِصَّة القُصَاصَة

قد لا يُصدَّق أنَّ من خطَّ هذه القُصَاصَةَ التي بين أيدينا، هو ذاك الشَّخص نفسُه الَّذي كتب القُصَاصَةَ (الخَامِسَةَ عَشْرَةَ)، والقُصَاصَةَ (السَّادِسَةَ عَشْرَةَ)، والقُصَاصَة (العِشْرون)!

 نعم، إنَّها هي ذاتُها التي خطّت هذه القُصاصة، ولكنَّها قُصاصةٌ خُطّت بأنامل كانت تعيشُ فترةً تأهيليَّة، أعقبت وعكة صحيَّة.

 تلك الفترة من الزَّمن أحِبُّ أنْ أطلقَ عليها وصفاً يليقُ بها، فأختار لها اسمَ فترة ((اللُّطف))، ليتجانس المَبْنَى والمَعْنَى؛ حيث هي من الفترات التي حَبَانِي وخصّني الله بها جملةً من ألطافه الخفيّة، ما يعجزُ مدادُ القلم عن إحصائه، والتَّعبير عن مكنوناته، وبثّ حروفه وكلماته، وتضيق الصَّفحات عن احتواء أسراره.

وَكَمْ للهِ مِنْ لُطْفٍ خَفِيٍّ         ***   يَدِقُّ خَفَاهُ عَنْ فَهْمِ الذَّكِيّ

وَكَمْ يُسْرٍ أَتَى مِنْ بَعْدِ عُسْرٍ    ***      وَفَرَّجَ لَوْعَةَ القَلْبِ الشِّجِيِّ[1]

 لكن هو ((اللُّطف)) بأبلغ صوره ومعانيه، وأرقّ إحساسه، وواسع فضله وإنعامه، حين يكون من اللَّطيف الخبير، {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}. (لقمان:16).

يقول الإمام السَّعديُّ في تفسير هذه الآية الكريمة: (اللَّطيفُ الَّذي يُدركُ بواطنَ الأشياء، وخفياتها، وسرائرها، الذي يسوقُ إلى عبده الخيرَ، ويدفعُ عنه الشرَّ بطرقٍ لطيفةٍ تخفى على العباد).

وهذا ما استشعرته ولمسته، وهو سبحانه العليم بحقيقة الضَّمائر وإنْ صمتت، وبصدقِ الكلام إنْ عَبَّرت، وبعمق المشاعر والأحاسيس وإنْ لم يظهر البوحُ بها.

 لقد لمسنا لطفَه عندما سَاقَ لنا سبحانه ظروفاً إلهية تهيّأت لهذا الحدث ذي الوَقْعِ القويّ على عباده الضُّعفاء، لكنَّه نزل بَرْداً وسَلاماً بفضل ألطافه العِظَام.

لقد حبانا الله سبحانه قبل هذا الحدث بشحنة إيمانية ((كانت التَّخلية قبل التَّحلية))، ملأت القلب له حُبّاً لله وقُرباً، وبرسوله قدوةً وتأسياً.

 جرعاتٌ من حرارة الإيمان وبرد اليقين، كأنَّنا نَرَى دعاءَنا وحاجتنا رأيَ العين، حتَّى إذا جاء يوم الأربعاء الأوَّل من محرَّم من عام 1437 ه الموافق 14 من أكتوبر 2015م، كانت زوايا المكان وأركانه تُردِّد بأصواتِ القلوبِ قبلَ أصواتِ الجوارح:

طَلَعَ البَدْرُ عَلَيْنَا ** من ثَنِيَّاتِ الوَدَاعْ

وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا ** مَا دَعَا للهِ دَاعْ[2]

كانت حينها النُّفوس زاكية، والأرواح مُنتشية منذ الصَّباح الباكر، تستحضر ذلك اليوم الَّذي قَدِم فيه رسولُها الكريم، حاملاً أعظمَ مشروع للبشرية جمعاء، ليخرجها من ظلماتِ الشّرك إلى نور التَّوحيد، وليُرْسِيَ قواعدَ دولتها، في طيبةَ المباركة (المدينة المنورة).

 كانت وقتها أجواءُ نشاط وترانيمُ حماس، وأشواق همَّة وعمل تحلّق لتلامسَ عَنَانَ السَّماء؛ اجتماعاتٌ ولقاءاتٌ وحلقاتُ ذِكْرٍ وعِلْمٍ؛ كلّها تسبحُ في فَلَكِ كتابِ الله العظيم، وتسعى في رحاب أنواره الهادية، خدمةً وتعليماً وتبليغاً، في تَسابقٍ وتَنافسٍ مَحمودٍ {وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}. (المطففين:26)؛ للفوز بخيرية مطلقة، {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}. (آل عمران:110)، قال قتادة: كان الحسن يقول: (نحن آخرُها وأكرمُها على الله).

إنَّها خيرية خصّ الله بها هذه الأمَّة، ونعيش في ظلالها ورحابها، هناك مع كلّ من تواجد في ((مركز آل حنزاب للقرآن الكريم وعلومه))، وأمثاله من المراكز العامرة بتعلّم وتعليم القرآن والذكر الحكيم، كما قال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((خيرُكم مَنْ تعلَّم القرآن وعلَّمه))[3].

 وفي هذه الأجواء الإيمانية، آثرت أن يكون ختامُ يومنا محاضرةً أقدّمها، ويكون موضوعُها مناسباً لهذا الحدث الجليل.

 فإنْ كان عليه الصَّلاة والسَّلام مشروعه الأعظم ((الهجرة))، فلا بدَّ أن يكون لكلّ امرئ مشروعٌ في حياته، وقد ساعدني في ذلك، ما عرضه فضيلة الدّكتور طارق الطواري، عندما تحدَّث عن ((مشروعك في الحياة))، ووجدت أن يكون بداية العام الهجري موعداً للانطلاق، تأسيّاً برسولنا الكريم، صلَّى الله عليه وسلَّم.

كانت محاضرة موفّقة – بفضل الله –، ومؤثرة على قلبي وروحي، وأستشعر ملامستها قلوب الحضور والمشاركين، حيث يرى ذلك في وُجوهٍ تخفي عَبَرَاتها، وأعين تمسح دَمْعَها.

حتَّى إذا ما جاء الغدُ ((الخميس))، أعدتها على مسامع العائلة في اجتماعنا الأسبوعي، والَّذي بلغت فيه التَّهيئة الإيمانية ذروتها.

 زادها تلك الجرعات الإيمانية التي اكتسبها بعض أفراد العائلة ممَّن حضروا ندوة للدّكتور أحمد عمارة، وكانت عن ((اليقين)) وأثره في حياة آمنة، يُعَاشُ نعيمُها ويُرى سُرورُها.

 كانت هذه الأيام وما حوت من محاضرات من خيرِ الزَّاد الَّذي حبانا الله به، للاستعداد للحدث الذي سمّيته ((اللّطف))، وكان ذلك في صلاة الفجر من يوم الجمعة، عندما بدأت الآيات تتداخل، وباءت كلّ المحاولات وأظهرت عجزها عن قراءتها سليمة، فتحوَّلت  لقصار السّور، وقد كنت تعوَّدت أن أبدأ بسورة الكهف في صلاة الفجر حتّى أنهيها ظهراً أو عصراً، حسب تيسير الله لي، ثمَّ أتبعَ ذلك تغيّرٌ لسيناريو معتادٍ للعائلة، فبعد أن أكملتُ متابعةَ خطبة الجمعة من تلفزيون قطر، انصرفتُ للرَّاحة، واعتذرتُ عن جلسةٍ دأبت العائلة المحافظة عليها بعد صلاة الجمعة؛ نتفقَّد فيها أخبارَ بعض، ونتابعُ خُطبة الحرم الشَّريف.

علمت العائلة أنَّ هناك أمراً جَلَلاً؛ فلم يتعوّدوا غيابي عن مثل هذا المجلس، الَّذي تنتظره العائلة بكلّ شوقٍ، وأكَّد ظنَّهم ما رأوه من حالة غيرِ طبيعيَّة استدعت نقلي إلى المستشفى، لتمرّ عليَّ ثلاثة أيام، بعدها لا أكادُ أذكرُ شيئاً من أحداثها.

وعيتُ على ألطافِ الله تُحيط بي؛ من أحباب حولي، ومستشفى يبذل أرقى خدمة طبيَّة وأجودها لكلّ من ولج أبوابَه؛ مستشفى كثيراً ما مشيت بين ردهاته، شاكرةً الله على نِعمه التي لا تُحصى، ومنها ما نَنْعَمُ به في هذا المستشفى.

لقد كان لطفُه سبحانه مُدهشاً حقّاً، حين ساق الله لنا الحاجاتِ بلطف، لا تُفاجِئنا أفضاله وألطافه، بل يسبقها برياح بُشرى تحمل الخيرَ في أثواب اللُّطف، وتهيِّئ القلبَ والنَّفس لاستقباله.

سِترٌ من ألطافه يَغمُرُنا، حتَّى إذا تعطَّلت وظائفُ الجسم الفسيولوجية؛ من دماغ قد توقّف إدراكه، ولسان تعقَّد نطقه، ويدٍ ورجل خارت قِواها، فلا ألوان تُميّز، ولا أعداداً تُعرف، ولا كلمات تُنطق، ولا فهماً للأمور يُذكر، فإذا سِتْرُ المولى سبحانه يُلبسنا من جلاله ويغشانا بأفضاله، فيُبقى آياتٍ من كتابه تُتْلَى، وحمداً له سبحانه يردّد، هو ذلك ما تبقّى على لساننا؛ إنَّه الله حين يتجلّى في ألطافه: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}. (يوسف:100). يقول الإمام الخطابي: (اللَّطيفُ هو أكبر بعباده الَّذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون، ويسبّب لهم من مصالحهم من حيث لا يحتسبون)[4].

فأمرُ المسلمين عجيبٌ، ففي كلّ أمورهم ((خيرٌ))، وصدق المصطفى عليه أفضل الصَّلاة وأزكى التَّسليم حين قال: ((عَجَباً لأمرِ المؤمنِ، إنَّ أمرَه كلّه خيرٌ، وليس ذلك لأحدٍ إلاَّ للمؤمن، إنْ أصابته سرَّاء شَكَرَ فكانت خيراً له، وإنْ أصابته ضرَّاء صَبَرَ فكانت خيراً له))[5].

 فالمرضُ مدرسة تربوية، إذا أحسن المريضُ الاستفادةَ منها، كانت نِعمةً لا نِقمة، وهي من أكبر الفرص للعبادة، خاصَّة العبادةَ القلبية.

واقعٌ نعيشه، ويقينٌ نلمسه، وخيرٌ يغشانا، ونعيمٌ نتقلَّب فيه، أوليس المرضُ من تَتَحاتُّ به الخطايا وتتساقط به الذّنوب؟ أوليس كلّ شوكة يشاكها المؤمن، له فيها الأجر والثواب؟ بلى، إنّه وعدُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزَن وَلاَ أَذًى وَلاَ غمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُها إِلاَّ كفَّر اللَّه بهَا مِنْ خطَايَاه)).[6]

 أوليس في ذلك فضلٌ كبيرٌ متعدٍّ يظفر به من حولنا؟ بلى، إنَّه إخبارُ الرَّسول عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربّه عزّ وجل؛ ففي الحديث القُدسيّ: ((عَبْدِي مَرِضْتُ ولمْ تَزُرْنِي، فيقولُ: كيف أزورك وأنتَ ربُّ العالمين، فيقول: مَرِضَ عَبْدِي فُلاَنٌ وَلَمْ تَزُرْه، ولَوْ زُرْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ، ولأن سألتني لأعُطِيَّنَك ولأن استعذتني لَأُعِيذَنَّك …))[7].

شرفٌ عظيمٌ يحظى به كلُّ مَنْ عاد مريضاً بموكبٍ من الملائكة تزفّه، حتَّى إذا وصل المريض وجد ذلك العطاء العظيم بوجود ربّ العالمين، وجودٌ يليق بجلاله، ليستجيب دعاءه، ويعاذ ممَّا يخافه.

إنَّها لطائفُ العظيم وعطائه الكريم ونعمه التي لا تعدُّ ولا تُحصى، كيف ذاك إذا كان شكرها وذكرها من النِّعم.

 لطفٌ وجدناه في ثوابٍ يحظى به ذلك المريض، وجزاءٍ مماثلٍ، يتعدَّاه إلى من حوله من الأقربين والعائدين.

ويأتي بلطفه عظائمُ المقادير، فلا تنتبه إلاّ وقد بات بساحتك خلقه الكثير في صوره يعجز المرء عن التعبير عنها، يحملون من المشاعر والدّعاء والمحبَّة والإشفاق، ممَّا تتيقَّن بأنَّ ذلك ما كان ليكون، ولا لحول لك ولا قوَّة، لولا لطف الله الَّذي وضع لك في القلوب من مظاهر أخوَّة ومحبَّة ممَّا يعجز عنه الوصف، وتقف الكلمات عنه حائرة، ولا يملك حيالها إلاّ دعاء، يرفع لربّ السَّموات أن يكون جزاؤهم منه سبحانه، فهو فقط القادرُ على أن يجازيهم.

 يأتي لطفُ الله ليريك مرادك الَّذي سعيت إليه واجتهدت فيه طول عمرك، ليجعله أمامك، فترى في فلذات كبدك كلَّ ما رجوته من ربّك ماثلاً ناظريك، انكساراً لله، ويقيناً بما عنده، وثباتاً عند البلاء والمحن.

لقد كان مشهداً من لطائفه العظام، عندما وقفت ابنتي رافضةً أن يدخل على أمّها راقٍ يرقيها، مؤمنة بآي الله الكريم: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ}.  (النمل:62).

وهي الَّتي كثيراً ما تردّد على مسامعها حديث الرَّسول – صلّى الله عليه وسلّم –: ((سبعون ألفاً يدخلون الجنَّة بغير حسابهم)). وبيَّن رسولنا الكريم بأنَّهم الَّذين ((لا يسترقون[8]، ولا يتطيَّرون[9]، ولا يكتوون، وعلى ربّهم يتوكّلون))[10].  

لقد كانت على عِلْمٍ بِقَلْبِ أُمٍّ، ترجو ربَّها في هذا الفَضْلِ العظيم وهذا العَطَاءِ العَمِيمِ من الكريم المنَّان.

أيَّامٌ رأيتُ فيها ثمرةَ الغَرْسَ وتربية هو يعلم بأنّي ما اجتهدت فيها إلاَّ ليسعدوا وأسعدُ برضاه سبحانه فيمن استرعاني إيَّاهم.

منظرٌ أراه يومياً حولي، تقرّ عيني به، وتطمئن جوارحي إليه، ويسكن القلب والرّوح له، ويكون له الأثر في تعجيل شفائي، وأنا أرى فلذات كبدي، يتناوبون متسابقينَ على كتابِ ربّهم، تلهجُ ألسنتهم بذكر آياته، إيماناً بوعده في دستوره المبين، وأنَّه للسَّقم الشفاءُ وللمرض الدَّواءُ، {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}. (الشعراء:80).

وأراهم يتوسَّلون إليه بالدّعاء والابتهال، موقنينَ بالإجابة، من الله القريب السَّميع المجيب، الَّذي لا يحتاجُ لوسيطٍ يسمع صوتَ عباده بالدُّعاء:(فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}. (البقرة:186).

وهناك مشاعرُ تنازعُ الفؤادَ حائرةً، بين أمٍّ ترى في وجودي قربها مَدَداً لقوّةٍ قد ضعفت، وتغلّب على وحشةٍ قد بَدَت، وطمأنة لنفسٍ قد وهنت.

 أضف إلى ذلك صُحْبَةً لها، لا أريدُ التَّفريطَ بها، وأريدُ بها تعويضَ أوقاتٍ بَعُدْنَا عنهم، لم ندرك قيمَتها إلاَّ والرَّحيل قد بَدا قريباً.

 وهناك مشاعرُ إشفاقٍ لابنة تتهيَّأ ليوم زواجها، وحاجات ترى في السَّفر سهولة تحصيلها، ولكن يأبى برٌّ تخلَّقت به أن تفصح عن مكنونِ رغبتها، ولما تعلمه من استحالةِ وقته وزمانه.

 فإذا بالله اللَّطيف سبحانه يُكْرِمُكَ بتحقيق المراد، وسياقة الأسباب، التي تكفيك حتَّى من الاعتذار، وكما كان اليَمُّ لحفظ موسى والسّجن سبباً لملك يوسف -عليهما السَّلام -، كانت هذه الوعكة الصحية أو ((اللُّطف)) سبباً لما احتوته الضَّمائر الصَّامتة، وما أبى اللّسانُ البَوْحَ به.

فيأتي الله بلطفه، فيجعل ما كان مستحيلاً في حدوثه عند البشر، وتخشى حتّى من أن تحدّث نفسك به، وقد تهيَّأت له الأسباب الإلهية، لتسير بتلقائية محفوفة بالعناية الرَّبانية، لا دخل للإنسان في مجرياتها، حتَّى إنَّه ليحسب أنَّ ذلك بكَسْبِ يده واجتهادِ عقله، ولكنَّه من كَرَمِ الكريم وعطائِه العظيم.

 ويكتبُ الله سبحانه رحلةَ علاجٍ، كانت محفوفةً بلطف اللَّطيف المنَّان، وبفضل ما حبانا الله من وطنِ خيرٍ معطاء، جعل صحَّة أفراده في صدارة أولوياته، وهكذا هي ألطافه سبحانه، وكما هو كرمه تعالى، تجده إذا أعطى أدهشَ في عطائه، وإذا أكرمَ أجزلَ في منّه وكرمه، فتكون هذه الرّحلة لطفاً تستشعره وتجده في كلّ دقائقها وثوانيها.

 فهناك علاجٌ بارك الله في أثره، وهناك حاجاتٌ قد قُضيت، وهناك متعةٌ وأنسٌ عشناها تفوق رحلات سياحية واستجمام سبقتها.

 ولا ننتَبِهُ إلاّ وهذا الَّذي حسب معجزة من المعجزات، يتحوَّل من ورم سرطاني تغشّى نصف الدّماغ متغلّغلاً في أنسجته، ليقول الأطباء حينها ماهي إلاَّ شهورٌ للحياة فيصبح التهاباً يُشفى منه في غضون أيَّام، مع يقينٍ بأنَّ الحَوْلَ والقُوَّةَ في ذلك كلّه، أقلّ من أنْ يحدث هذا التَّغيير.

 إلاَّ أنَّه عندما يشاءُ ذو القوَّة القديرُ، فحينئذٍ يصمتُ كلُّ من له علمٌ وخبرة تظلّ قاصرة ومحدودة، مهما كشفت لهم المجاهرُ وأظهرت لهم التَّحاليلُ!

يقينُنا الَّذي لا تساوره الشّكوك، بأنَّ أمرَه كلّه سبحانه بعدَ الكاف والنُّون: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.  (البقرة:117)، حين يحلّ أمرُه ويحضر، عندها تتضاءل الدّراسات وما توصل إليه العلم البشري، وتقف نتائجها وحقائقها، وتتقزَّم عند عظمته وجبروته الخبراتُ والاكتشافات!

ذلك من عظيمِ لُطْفِه، الَّذي جَعَلَ المتخصّصَ في جهاز (MRI) يشكُّ ويرتاب في أنَّ الصورتين اللَّتين أمامه، قبلُ وبعدُ، تعودان للشَّخص نفسه، لولا وجودُ رقمٍ طبيٍّ واسمٍ شخصي، لما أكَّد ذلك وأزال شكّه وارتيابه!

رحلةٌ عشناها أيَّاماً في ألطافِ الله سبحانه، نتحسَّسُها بحبّ ورضا، ونتفيّأ ظلالها الوارفة بما تخبّئه لنا أقداره وأرزاقه بشكر وصبر، مؤمنين بأنَّ الله {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}. (يوسف:100).

 ولو راجعَ الإنسانُ خفايا عميقِ لطفِ الله ودقائقَ أسرارِ عنايتِه الَّتي مرَّت عليه ورافقته في مسيرة حياته، لوجدها ماثلة حيَّة، في كلّ نَفَسٍ يخرج من جسده، وفي كل نَبْضَةِ يحيا به قلبه، وفي كلّ حركةٍ يقومُ بها، بل في مناحي أموره كلّها، ودقائق وساعات وقته، وتفاصيل حياته.

إنّه شريطٌ من الأحداث يحوي مشاهدَ من لطف الله تعالى وصوراً من عنايته، أضعه بين أيديكم، عسى أن يكون مفتاحاً لتحسّس ألطاف الله سبحانه، في دقائق أنفسنا، وفي مجريات وتفاصيل حياتنا.

 ولا أتمنّى لكم تجربة مثيلة لها، ولكنَّني أتمنّى أن تعيشوا نسائمَ ((اللُّطف)) في كنف الله تعالى وستره ورعايته، وبصمات العناية الإلهية في سائر الحياة ومعترك الأعمال والعلاقات؛ ففي كلّ محطّة منها ستجدون ألطافه، فاستمتعوا بها، واجعلوها زاداً ومعيناً لبلوغ منازل القلَّة الشَّاكرين، والارتقاء في مدارج عباده المتأمّلين.

[1]  يُنسب هذان البيتان للإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه.

[2]  أنشد هذا النشيد نساءُ الأنصار وصبيانهم، كما ذكر الإمام البيهقي؛ وذلك عند دخول النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجراً من مكّة المكرّمة وقدومه إلى الأنصار. وقيل: عند قدومه من غزوة تبوك. ينظر: زاد المعاد في هدي خير العباد لابن قيم الجوزية، وفتح الباري لابن حجر، لابن حجر العسقلاني.

[3]  رواه الإمام البخاري في صحيحه عن الخليفة عثمان بن عفّان رضي الله عنه.

[4]  ينظر: تفسير (فتح القدير)، للإمام الشوكاني.

[5]  رواه الإمام مسلم في صحيحه.

[6]  حديثٌ متفق عليه.

[7]  أخرجه الإمام في صحيحه، كتاب البرّ والصلة والآداب، باب فضل عيادة المريض.

[8]  لا يسألون الناس أن يرقوهم، والاسترقاء أن يطلب من غيره أن يرقيه، والرقية من نوع الدعاء.

[9]  الطيرة التشاؤم.

[10]  رواه الإمام البخاري في صحيحه.

النشرة البريدية

اشترك فى النشرة البريدية لمعرفة كل جيد عن الدكتورة نورة