قِصَّة القُصَاصَة 

قُصاصتنا هاته عبارة عن بطاقة خُطّت باليد، وصيغت حروفها وكلماتها، بأنامل براعم صغيرة، وفتية قلوبهم طاهرة، فكان لها وقعها الخاص وأثرها البالغ على النَّفس، لمكانة كبيرة في القلب لمن أرسلها.

احتفظت بهذه البطاقة مع بطاقات كثيرة وردتني من أحباب عرفتهم، شاركوني مناسباتي، وإنْ كنت أحتفظ بهذه البطاقات في صندوق خاصّ بهم، إلاَّ أنَّهم يحتلون كلَّ قلبي، وأتفقدّهم من وقت لآخر، تسبقني دموعي امتناناً لهم، ويلهث لساني داعياً لهم، بيقين أنَّ الله هو القادر فقط على مجازاتهم عن حبٍّ لي يعمر به قلوبهم.

إلاَّ أنَّني في هذه البطاقة، قد تردّدت في ضمّها إلى كتابي، وإنْ كنتُ أحتفظ بها مع باقي البطاقات عندي، ولكنَّني أخيراً آثرت تقديمها، وبثّ مشاعرها مسطورة في هذا الكتاب، عسى أن تُحقّق غايةً أصبو إليها، وهدفاً أريدُ تحقيقه بكتابة قصَّتها، وفائدة أرجو أن يعمّ خيرُها وبركتها.

فالقُصَاصَة عبارة عن بطاقة تحمل عباراتِ الشُّكر في كلماتها، وتسري روحُ الامتنان بين سطورها، وتفوح بين ثناياها معاني الحبّ والتقدير، مختومة بأسماء لأحفادٍ، أكبرهم ذات عهد قريب من العاشرة من عمرها، وأصغرهم لم يتجاوز الخامسة، مصحوبة بهدية تحمل كلَّ معاني الطفولة والبراءة، وباقة ورد مُبهجة بقدر بهجة وفرحة تنعكس على سنحات وجهوهم المشرقة.

كانت المناسبة ختام إقامة لهم عندنا، لم تتجاوز الأسبوع لظروف سفر والدتهم في دورة وظيفية، وبقدر ما سعدنا بهم بيننا، بقدر ما أضافت إقامتهم في البيت البهجة والسُّرور له، حيث ترى الفرحة في عيونهم، وأثر التَّغيير والتجديد بادياً على نشاطهم وحركاتهم، نتيجة الاستمتاع بصحبة أقرانهم ومن هم في عمرهم من الأحفاد الآخرين.

والحقيقة أنّي لم أستقصِ عمّن يقف وراء هذه الحركة الجميلة (البطاقة والهدية والورد)؛ هل هو إيعازٌ من والدتهم، أو مبادرة من صنع فكرهم الطفولي، أو تصرُّف محضٌّ من مربيتهم، أيّاً يكن سبب ومبعث ذلك، إلاَّ أنَّه أسلوبٌ أسعدني، وفكرة أدخلت السرور إلى قلبي، ومبادرة جعلتني أقف عندها في هذه القصاصة لأستخلص منها معانيَ تربوية حوتها، وقيماً إيمانية ضمّتها، وأسلوباً مؤثراً في فكرة وقالب جميل قدّمت فيه.

 وجدت في هذه البطاقة في معانيها ودلالاتها مبعث طمأنينة على حسن غراس أنتجته تربيتهم، وجميل ثمار رعايتهم، في توجيه موفَّق لهم على أهمية استشعار واكتشاف جميل ما يفعله الآخرون لهم، من قولٍ أو عملٍ، ثمَّ ترجمته إلى شكر وتقدير وشعور بالامتنان لهم، مهما كان الفعل صغيراً، ومهما كان القول بسيطاً، فالعبرة في عميق التّأثير وديمومة الفائدة والنَّفع.

إنَّ هذه الأمور وإنْ بدت في ظاهرها بسيطة، إلاَّ أنَّ لها دلالتها وتأثيرها في عقل ونفس الطفل، لأنّه يسهل توجيهه وتطبّعه بسلوك من حوله بملاحظته للآخرين، وهم يقومون بمثل هذه التصرّفات النبيلة والقيم المثلى، التي تساعد على تنشئة جيل حسن الأخلاق متشبّع بالقيم، قادر على التَّعامل مع النّاس، ممَّا يرفع ويُعلي من قيمته كفرد صالح، ومن ثمَّ قيمة مجتمع يعيش فيه.

 كما أنَّ لهذه القدوة الحسنة التي غرست في الطفل قيمة الشّكر والتقدير والامتنان، تكسبه صفة الرّضا والعطاء، وهو في بداية عمره ومنطلق حياته، وتضفي عليه قبولاً واستحساناً بين مجموعة الأفراد، ويكون دافعاً له على العطاء والبذل والتميّز والإبداع بشكل أكبر.

فمن التَّربية الحسنة والتوجيه النافع لجيل اليوم أن نرفع سقف الاستشعار عندهم لجميل ما يقوم به ويصنعه الآخرون، وأن نعزّز عندهم هذه القدرة وهم في المراحل العمرية الأولى، ونغرس في قلوبهم وعقولهم هذه القيمة التربوية، ونقف بجانبهم ونأخذ بأيديهم إلى هذه المثل العليا بالقدوة الحسنة والتوجيه الهادف بكلّ صمت وهدوء.

 إنَّ من الإجحاف في حقّ جيل أن ينشأ متعوّداً على النّعم لا يستشعر وجودها ولا يؤدّي حقّها بالشكر أصالة وابتداءً، أو اعترافاً وامتناناً، حين يتأصّل فيه جحود النعمة أو قد يصاب بما يسمّى بمرض ((التعوَّد على النِّعمة))، فيحسب أنَّها له استحقاقاً، وستتوفَّر له في مختلف ظروفه وسائر أحواله.

 وهنا يتدخَّل التوجيه التربوي للطفل وإرشاده إلى مسالك استشعار النعم ومعالم دوامها من خلال شكر النِّعم بالدُّعاء، فقال: ((اللَّهمَّ ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك، فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشُّكر))، ‏وقد روى الصَّحابي الجليل معاذ بن جبل، رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّه ﷺ، أَخَذَ بِيَدِهِ وَقالَ: يَا مُعَاذُ، واللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ، ثُمَّ أُوصِيكَ يَا مُعاذُ، لاَ تَدَعنَّ في دُبُرِ كُلِّ صلاةٍ تَقُولُ: ((اللَّهُم أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ، وحُسنِ عِبَادتِك))[1].

قال ابنُ رجب رحمه اللَّه: ((كلُّ نعمة على العبد من اللَّه تعالى في دين أو دنيا، تحتاج إلى شكر عليها، ثمَّ التَّوفيق للشُّكر عليها نعمة أخرى، تحتاج إلى شُكرٍ ثانٍ، ثمَّ التَّوفيق للشكر الثاني نعمة أخرى يحتاج إلى شكر آخر، وهكذا أبداً، فلا يقدر العبدُ على القيام بشكر النِّعم، وحقيقة الشُّكر: الاعترافُ بالعجز في الشُّكر)).

وقد يغفل الإنسان عن مشاركة الآخرين هذه النّعمة العظيمة والعبادة الجليلة، من خلال شكر النّاس على صنيع فعلهم أو مبادرتهم أو معروفهم، ليـأتي التَّوجيه النَّبوي في الحثّ على شكر النّاس، اِمتناناً وتعزيزاً وتحفيزاً، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((لا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لا يَشْكُرُ النَّاسَ))[2]. وقال عليه الصَّلاة والسَّلام: ((من صنعَ إليكم معروفاً فَكَافِئُوهُ، فإن لم تجدوا ما تُكَافِئُونَهُ فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه))[3].

 

 وما أجمل أن نُعوِّد أبناءَنا وجيل اليوم على تجسيد نعمة الشُّكر على أرض الواقع مع النَّاس، أقربهم وأبعدهم، ونغرس فيهم المبادرة إلى الشُّكر، من خلال الأفعال لا الأقوال، فالقيمة التَّربوية تعني إكساب الفرد أنماط التفكير الإيجابية والمرجعيات الحسنة المتوارثة، سواء الدّينية أو الاجتماعية، والتي تندب لمواجهة كافة المواقف التي ممكن أن يُتعرَّض لها مع النّاس في مختلف ظروف الحياة، فهذه الأمور الصَّغيرة الحسنة التي يتعلّمها الطفل بالتعلّم أو القدوة، تساعده عندما يكبر، فيصبح لديه حبّ المشاركة ممَّا يشعره بأهميته ودوره في الحياة، وكما قال أهلُ التَّربية: ((إنَّ التَّهذيب بالأعمال خيرٌ من التَّهذيب بالأقوال)).

ولنا فيما كتبه الدُّكتور مصطفى السّباعي، رحمه الله، العزاء في كلّ ما يكابده الوالدين في تربية وتنشئة أبنائهم، إذ يقول: (الأبُ العظيم من يحاول أن يجعل ولده أعظم منه، والأب العاقل من يحاول أن يجعل ولده مثله، ولا أتصوَّر أنَّ أباً يحاول أن يجعل ولده أقلَّ منه، ولا يُنسي الأب شقاءه في سبيل ولده، إلا أنْ يراه بارّاً مستقيماً، وأنَّ جهادَ الآباء في ميدان التَّربية، أشقُّ من جهاد الأبطال في ميدان الحروب).

هَمْسَةٌ:

اِجْعَل تربيَّتك لأبنائك هي أغلى استثماراتك؛ ((فما نَحَلَ[4] والدٌ ولدَه أفضل من أدبٍ حَسَنٍ))[5]، فأنت أوَّلُ المستفيدين من حُسن تربيتهم، وعدٌ من الله لك: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَان}. (الرَّحمن:60).

[1]  رواه الإمام أبو داود والنَّسائي بإسناد صحيح.

[2]  رواه الإمام أحمد في مسنده والإمام أبو داود في سننه والإمام البخاري في الأدب المفرد، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[3]  رواه الإمام أحمد في مسنده والإمام أبو داود في سننه، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

[4]  (النَّحلُ العَطيَّةُ والهِبَةُ ابتداءً من غير عِوَضٍ ولا استحقاق). ينظر: كتاب: (النهاية في غريب الحديث)، لابن الأثير الجزري.

[5]  رواه الترمذي في سننه والبيهقي في شعب الإيمان.

النشرة البريدية

اشترك فى النشرة البريدية لمعرفة كل جيد عن الدكتورة نورة