مُحتوى القُصَاصَة

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم


أستاذتي الفاضلة… تحية طيبة وبعد،

ها هي كلماتي المبدوءة بالتحية تبجلكم وقوفاً على السطور .. حانية معانيها أمام مقامكم الكريم .. مقرونة بعبارات الوفاء والصدق والإخلاص … ملبية نداء شاعر النيل .. (كاد المعلم أن يكون رسولاً) فتقبلي ممن حملوا رسالتك.. ونهلوا من معين علمك … كل الشكر والتقدير .. عاجزين بكل اللّغات وكل المعاني .. أن نجد لذلك مقابلاً .. سوى أننا وجدنا لغة إلهية تفي بحق معلمينا ..
فسجدوا أمام معانيها شكر لله ومنه .. إنها الكلمات التي تبكي أمامها القلوب…

((إنَّما يخشى الله من عباده العلماء))  ..

فلكم تغمرنا السعادة إذ نجد أنفسنا أمام السعادة الحقيقية عندما نجد أنفسنا أمام علمائنا الكرام ومجالسهم تفتح أبوابها على مشرعة لاستقبالنا.

 

 وفي هذه اللحظة نتذكر حديث الرسول الله ( ص) اذا مررتم برياض الجنة فارتعوا ، قالوا يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال : مجالس العلم ))وكيف لا يكون مجلس العلم روضة وهو يعدل ٧٠ نافلة .. وتحفّه ملائكة الرَّحمة .. ويحمل خاصية التعدي التي تميزه

((هم القوم لا يشقى جليسهم)).

 فلكم الشكر كل الشكر … فلولاكم ما جلسنا هذه المجالس الطيبة .. لقد شاركتموني بالفكرة … وأبهرتمونا بالفعلة … أخلصتم فأنجزتم .. وعزمتم فأتمتم… بارك الله فيكم … وأحسن إليكم … وزادكم نوراً وإيماناً ويقيناً.

 

ونحن الآن أستاذتي الفاضلة … إذ نسعى للمكافأة فإنها نسعى لمستحيل …. ولكن نحن آملين -وهذا تواضعاً منك – أن تواصلي مشوارك الذي بدأتيه معنا … إنه المشوار الذي لا ينتهي إلا إلى أعلى مقام … كما بشر بذلك الحبيب … (( عدد درج الجنة عدد آي القرآن ، فمن دخل الجنة من أهل القرآن فليس فوقه درجة )) … وهذا ما نوده لك أستاذتي العزيزة … هذا هو المقام الذي نريدك الوصول إليه.. إنّه الأجر الذي ليس فوقه أجر … ((والله أعظم أجراً))

 

جماعة تحفيظ القرآن

رنا عبد الرحمن .. إيمان محمد .. مريم خليل

قِصَّة القُصَاصَة

قُصَاصَاتٌ أو شهاداتٌ ظفرت بها، وكانت الأروعَ والأبلغَ أثراً وتأثيراً، من أرسلها هنّ زهراتٌ كانت المعرفة بهنَّ واللّقاء معهنّ في أفضل البِقَاع ((الحَرَمُ الجَامِعي))، في مجالس ذِكْرٍ تحفُّها الملائكة وتغشاها الرّحمة والبركة، وأخرى هناك في قاعات العلم والمختبرات، تنهل من العلوم أنواعاً ومن المعارف فنوناً ومن الآداب ألواناً.

هي مرحلة من العمر ومسيرة من الزَّمن وشريطٌ من الذّكريات، كانت هذه القُصَاصَاتُ، بفضل الله سبحانه، عنوان شهادتها، ومعالم بصماتها، وتلك الأماكن مركز ميدانها، والقلب النَّابض لاستمرار إبداعها، وكانت فيها حاضنات ومعلّمات الجيل المستقبليّ هنّ بهجتها وصانعات مجدها، وفي الصّعاب والمحن هنّ بلسم جراحها، وجنودها وخطّ دفاعها الأوّل.

القُصَاصَة الأولى، بقدر فرحتي بما حوت من مشاعر جيّاشة بالحبّ وعباراتٍ مفعمة بالاحترام والتقدير، بقدر فخري وزهوي بمن رصَّ جواهرَ عِقْدِها، وانتقى كلماتها، وعَاشَ مشاعرها، وضمَّنها خيرَ الكلام وأصدق البيان؛ من دعاء كريم وُجّه إلى ربّ العالمين، عسى تفتح له أبواب السَّماء، ويرفع فوق الغمام، مؤمّنة عليه الملائكة، وداعية لهنّ: ((ولَكُنَّ مِثْلُهَا)).

أمَّا القُصَاصَةُ الأخرى، فقد بدأت معبّرة عمَّا يراه طالباتي، وبالأحرى بناتي، ومن لهنّ من الحبّ والمكانة في قلبي ما يوازي حبّي لفلذات أكبادي؛ حيث كانت العبارة وهي ما افتتحوا بها رسالتهم ((لقد مضت تلك السَّاعات التي كنّا نقضيها معاً بسرعة البَرْقِ .. فلا نَلمحُ بأعيننا السَّاعةَ، إلاَّ ونحن نراها تَنْقَضِي لَمْحَ البَصَرِ)).

ولقد صدقوا، فلم تكن ساعاتٌ تمضي، بل سنوات تُطوى وعلى عَجَلٍ، مثبّتة ما فيها من أقوال وأفعال وإنجازات تظل شاهدة، وكما هي في نقائها وصفائها وبساطتها، خالية من كلّ زيادة أو نقصان ومجرّدة من كل خطأ أو زَلَلٍ، فهي مسطورة محفوظة، كما قال تعالى: {فِي كِتَابٍ ۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى}. (طه:52).

 

 ولو عاد الزَّمنُ ما تمنّينا سنينَ غيرها، ثقةً ورضى بمن قَسَّمَها، ويقيناً بأنَّ ما كتبه الله ودبَّره لنا في هذه الحياة هو خيرٌ من تدبيرنا، وإيماناً بوعدِ الله سبحانه وعظيم جزائِه لعباده، ورجاءً بقبوله التَّوبة عن كلّ خطأ، والعفو والغفران عن كلّ تقصيرٍ أو سَهْوٍ أو زَلَلٍ، فكما قيل: (لو كُشِفَت لك الحُجُب، ما اخْتَرْتَ غيرَ ما اختارَه اللهُ لَك).

 إنَّها ليست قُصَاصَةً، بل هي ((إِرْثِي النَّفِيس))؛ الَّذي أتشبَّثُ به، وأعَضُّ عليه بالنَّواجذ؛ إذ هو حصيلتي من سنين عمري وزهرة حياتي، والتي بذلت في زرعها ورعايتها وتعهدّها أقصى طاقاتي، إيماناً في تأدية من ائتمنت عليه من رسالة العلم وأمانة التَّبليغ، وما حُمّلت من مسؤولية وشرف الاسم الوظيفي، فاجتهدت في صونه والمحافظة عليه وتأديته بإتقان وإحسان.

هي ((إِرْثِي النَّفِيس))، الذي أحتفظ به، شاكرةً لله نعماءَه التي حفّتني مسيرةَ حياتي، حامدةً لله عطاءَه الَّذي حَبَانِي به مراحلَ عمري؛ إذ هو يُمثّل سنينَ زهوي بعطايا ربّي، وقمَّة امتناني بحصيلة سعيي، وما سيوضع في صحائف عملي، وما سأُحَاجِجُ بِه ربّي عند لقائه.

لقد كانت تنتابُني نوبةَ حياء وخجل، حين أسمعُ من يقول: (إنَّه سَيُحَاجِجُ ربَّه)! حتّى وقفت عند آية قرآنية كريمة، وتدبّرتُ معانيها وعشتُ في ظلالها، هي قول الله تعالى: ((يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}. (النحل:111). أي: إنَّ الله غفورٌ رحيمٌ في ذلك يومَ تأتي كلُّ نفس تجادلُ عن نفسها[1].

 

ما أجملَ ((عَدْلَهُ)) سبحانه وتعالى، وما أعظم ((كِبْرِيَاءَهُ)) جلَّ جلالُه؛ حين يسمحُ لعباده الَّذين خلقهم بمجادلته، وهو الخالقُ العظيمُ والمتفضّلُ الكريمُ، وهو واسعُ العطاء والمغفرة، وهو القريب المجيب، ففي الحديث النبوي: ((يُدْنَى الْمُؤْمِنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ)). أي: يستره ويرحمه ويلطف به[2]، لتلهج قلوبنا بالدّعاء له وتلجأ أرواحنا بالتضرّع إليه، في كلّ وقتٍ وحِينٍ: ((اللَّهمَّ ثَبِّتْ حُجَتّي في الدُّنيا والآخرة))[3].

لذلك احتفظت بهذه القُصَاصَة؛ حيثُ هي كَنْزِي أدّخره في هذه الَّدنيا، وليكون حجَّتي يومَ لقائه في الآخرة.

هي العزاءُ في مفارقةِ ((حَرَمِنا الجامعيّ))؛ والَّذي هو من النَّفْسِ بمكان، ومن القلب والجوارح بميدان، دَرَجْنَا على أرضه أيَّامَ زهرة الشباب، مُتنقّلين بين قاعاته؛ حيث كنَّا متعلّمين ثمَّ معلّمين، نخالط زملاءَ العمل وأصدقاء العمر، نجد في رحابها لذَّة العلم، وفي حياضه سعادة العطاء، والأمس مع طالبات علم، تزهو النَّفس معهنّ، متألّقة بطموح شبابهم وروعة حماسهم، وتهيم الرّوح معهم في بدائع وعجائب خلق الله تعالى في كائناته المختلفة وكونه الفسيح، وفي آياته في الآفاق والأنفس.

هذه القُصَاصَة وما حوت، هي عندي الأغلى قيمة وثمناً من مكافأة تُأخذ في نهاية الخدمة، وأبلغ أثراً من شهاداتِ شُكرٍ تُمنح؛ هي الذّكرى الجميلة في العقول، والأثر العميق في القلوب بما تورثه من آثار طيّبة في الأخوة والمحبَّة، والأمل في العمل الإيجابي والعطاء، إذْ هم الوطنُ بهم يُبنى والمجد بهم يُشيَّد، كما قال الشَّاعر[4]:

شَبَابٌ ذَلَّـلوا سُبـلَ المَعالي           ***           وَمَا عَرَفُوا سِوَى الإسلامِ دِينَا

                              تعهّدهم فأنبتهم نباتاً           ***         كريماً طابَ في الدّنيا غُصونا

هم وَرَدُوا الحياضَ مباركات        ***             فسالت عندهم ماءً مَعِينا

وإنْ جنَّ[5] المساءُ فلا تراهم      ***         مـن الإشفاقِ إلاَّ ساجِدينَـا

ومَا عَرَفُوا الأغاني مائعاتٍ       ***           ولـكنَّ العُلا صِيغَتْ لُحونَا

فـيتَّحدونَ أخـلاقاً عِـذاباً              ***        ويـأتلفُون مُجتمعـاً رَزِينَا

 

هي المشاعرُ والأحاسيس التي تغذّي الروح والقلب، وتبعث فيهما الحياة، سليمة معافاة، بقدر كلّ ذرة أكسجين يستمدُّ بها الجسد عافيته، وبقدر كلّ نبضة قلبٍ تتجدّد بها الحياة.

قُصَاصَاتٌ وُقّعَت بأسمائهنّ؛ في الأولى: (رنا، إيمان، مريم)، وفي الأخرى: (حنان، غصون، فاطمة، هيمان)، رُصدت ودوّنت في حاشية الورق، ولكنَّها حُفِرَت في سويداء القلب، وأودعت هناك بين جنبات النفس، لتنشر حبّاً لهنَّ ولمثيلاتهن، مع كلّ نَبْضَة من نبضات القلب، فهنّ ((إرثي النَّفيس)).

 

هَمْسَة:

انتقي ما ستورّثه، واستَوْدِعْه القلوب النَّابضة بالحبّ والأرواح الحيّة بالاهتمام، فهو خيرٌ وأبقى، وأرجى من ألاّ يُنسى، من إرثٍ أو ميراثٍ، يحتاجُ خُزَناً أو أدراجاً لتحفظه.

[1]  ينظر: تفسير الجامع لأحكام القرآن، للإمام القرطبي 12/451.

[2]  الكَنَف في اللغة العربية هو الجانب والناحية.

[3]  ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر للإمام ابن الأثير الجزري 3/811.

[4]  هذه الأبيات مختارة من قصيدة بعنوان (شباب الإسلام)، للشاعر هاشم الرّفاعي، (1353هـ-1378هـ) = (1935م -1959م)، شاعر مصريٌّ شابٌّ، يلقّب بعاشق الحرية، توفي ولم يتجاوز عمره الخامسة والعشرين، وهذه القصيدة ألقاها الشاعر في ندوة أقيمت بجمعية الشبان المسلمين مساء 9/فبراير شباط/ سنة 1959 لمناقشة انحراف الشباب.

[5]  جنَّ المساءُ: حلَّ واشتدّ ظلامه.

النشرة البريدية

اشترك فى النشرة البريدية لمعرفة كل جيد عن الدكتورة نورة