قِصَّة القُصَاصَة 

:

قُصَاصَة هي … ولكنَّها الكنز الذي ظفرت به، وجدت فيها ما يُهوّن على النَّفس لوعتها من فراق أدْمَى قلبها وأجرى دمعها، فقد كان خبرُ وفاتها كالصَّاعقة على الجميع، وكان أعظم أثراً وأشدَّ وَقْعاً على كلّ مَنْ عَرَفها أو حَظِيَ بعِشْرَتِها.

فقد عُرفت بتلك الأخلاق الكريمة والخِصال الحميدة، وما زاد ذلك الوقع ألماً، تزامن خبر وفاتها المفجع مع مناسبة فرح، لا عذر في تنفيذه، وليس هناك حولٌ ولا قوَّة في تأجيله أو تعطيله.

مشاعرُ وأحاسيس لا تتمنّى لأحدٍ معايشتها؛ فهي على جسدك الضَّعيف تلمس أثرها فتتقطّع أوصاله، ويتفتّت الكبد لآلامها، ويتفطّر لها القلب، وتسري في مداخل الإنسان ألماً وكمداً حتّى العظم تُوهنه!

لكنَّ الرُّوح حين تستجيب، وهي تحاول أن تسمو بطمأنينتها، تتصادم مع تلك المشاعر والأحاسيس مسبّبة اضطراباً في النَّفس، في محاولة يائسة للسيطرة على ردّة الفعل، والتّعامل بإيجابية الإيمان بقضاء الله وقدره، وبالتمسّك بقيمة الصَّبر والاحتساب، التي تُثبِّت الإنسان وتُسنده في ساعة الحزن ووقت العسرة وحين وقوع المصيبة والألم، استجابةً لتوجيه الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: ((إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى))[1].

إنَّها حالةٌ من الضّعف الإنساني، تنوء بحلمها والسيطرة عليها الجبالُ، فكيف بقطعةٍ بناؤها من لحم وعظم، وغذاؤها دم ونفس، وعملها نبضٌ يتضارب، ومشاعر تتفاعل، وأنفسٌ تتجاذب، حسب مؤثراتها وأحداثها، في حالة الأحزان والأفراح، وفي وقت الغضب والرّضا والتسليم.

لقد كانت تلك هي الحالة، عندما تزامنت فترة العزاء في وفاتها – رحمها الله – مع زواج ابنتي، يومها عجزنا عن التَّدبير، فأوكلناه إلى ربِّ العالمين مستسلمين، فهو وحده من يُحسن التَّدبير، وقد كان من دعائنا: ((اللهمَّ دَبِّر لنا، فإننّا لا نُحْسِنُ التَّدبير)).

لقد عرفناها مُحِبَّةً ودائمةَ الوصل لوالداتي – رحمهم الله جميعاً – وجمعنا بهم في جنَّاته برحمته وكرمه، وكانت بينهما علاقة قُربى، ولها زيارات غير متباعدة لها؛ ففي زياراتها ورؤيتها والجلوس معها، ترى النَّعيم المعجَّل، كأنَّك في مجلس من مجالس الجنَّة، ليس بما يحويه من فخامة وأثاث، بل بما يبثّ فيه من روحٍ طيّبة تغشاه، لا مجالَ فيه لما يعكّر صفاءَه وبركتَه؛ من كلام لَغوٍ أو لَفْظِ سُوءٍ أو حديثٍ مُشين، بل على العكس من ذلك تماماً، حيثُ تجدُ فيه التّرحاب والبشاشة ولين الجانب وحسن الملاطفة والحديث الممتع، وإنَّه ليصدق فيها وصف الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم على الفئة التي تُحرم على النَّار، وتُحرم النَّار عليها: ((كلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ قريبٍ سَهْلٍ))[2]  .

لقد كانت كلماتُها -رحمها الله -في تلك المجالس منتقاة، وتوجيهاته متواضعة ببساطتها وعفويتها، لكنَّها كلماتٌ من القلب فتشعر بحرارتها وتأثيرها، وتوجيهاتٌ من صميم الواقع فتتنزَّل كالبلسم والدَّواء، إنَّك لتجدُ في تلك المجالس العامرة الإحسانَ في أرقى صوره وأبلغ بيانه.

أحببناها حبّاً نرى فيه حُبَّ الأولياء الصَّالحين – ولا نزكّيها على الله – بل عسى أن يكون لها شهادة عند ربِّ العالمين، رأينا فيها الدِّين مجسّداً في أخلاقٍ كريمةٍ من تعامل وعبادة، وكُمِّلَ بسِترٍ يتغشّاها، وبركةٍ تحفظ وتزيدُ توفيقاً وتيسيراً.

لقد اكتسبت كلَّ الخلال الفاضلة وحازت كلّ الصّفات الحميدة، دونَ تعليم منهجيّ يُتَّبع، أو شهادات علمية تُمنح، ولكنَّه رزقُ ربّ العالمين، حين يُساقُ سوقاً إلى عباده المصطفين الأخيار، فالأخلاق من أفضل الأرزاق وأبقاها وأنفعها وأدومها، قال يَحيى بن مُعاذ[3]: ((في سَعَةِ الأخلاق كنوزُ الأرزاق)).

تربَّت في بيتٍ فاضلٍ، لوالدين كريمين يشهدُ لهما القاصي والدَّاني بكلّ إيمانٍ وخيرٍ وفضلٍ وصلاح؛ فقد كانت والدتها يرحمها الله أسمّيها ((عاكفة القرآن))، فكمْ مرّات زرناها، فوجدناها على سجَّادتها، تاليةً لكتاب الله، متواضعةً بين جنابِ ربّ العالمين، ما بين صلاةٍ وذِكْرٍ.

أمَّا والدُها – يرحمه الله – فكان معروفاً برِقَّة القلب، وغَيرةٍ على الدِّين، ووفاءٍ للأصحاب، فكان هذا البيتُ العامر بالإيمان والفضيلة، يتوارث هذا الرّزق ويحافظ عليه كأفضل ميراث من جيل إلى جيل، فهم كما وصفهم التعبير القرآني: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ}. (آل عمران:34).

قال قتادة: (في النية والعمل والإخلاص والتوحيد له). وقال آخرون: (في الموالاة في الدّين، والمؤازرة على الإسلام والحق).

لقد وجدتُ في رثاء زوجها – حفظه الله – العزاء والمواساة لما اختلج قلبي وأثّر في نفسي، فحرصت على اختيار هذه القُصَاصَة، واقتطاعها من جريدة نَشرت هذه المرثية، واستودعتها قلبي وحفظتها في ذاكرتي، وهـأنذا اليوم أكتبُ قِصَّتها، فقد كانت لي العزاء في أن يُنشر ذكرُها ويُذاعَ فضلُها، وفي أن تُرثى؛ ((فَمِثْلُهَا مَنْ يُرْثَى)).

وخالط هذا العزاءَ الممزوجَ بحزنٍ فَرَحٌ مزدانٌ بفخرٍ واعتزاز، بأن يكون ذلك هو زوجها وابن عمّها وشريك أيّامها وعيشها، وهو ابنُ البيئة الَّتي عُرفت بتحفّظها الشَّديد، خاصَّة من ناحية النّساء، فضلاً عن رثائهنّ والتعرّض لذكرهن، فقد كان يعيش مجتمعاً محافظاً، دينياً ، يميل أن يكون ذكورياً ، تمسّك شيوخهم – رحمهم الله – بالعادات والتَّقاليد المستمدة من الدّين الحنيف، وحرصوا قدر ما استطاعوا على الاحتفاظ بهُويته ، فكان مجتمعهم آخرَ من أدخل التلفاز إليه، وكانت نساؤهنّ آخر من التحق بالجامعات، وحافظن على لباسهنّ التَّقليدي ولباس ((البطولة))، وهو غطاء الوجه لنساء الحضر القطريات.

إنَّها ((العَنُود … أمُّ عبدِ الرَّحمن))، رحمها الله وأدخلها فسيح الجنان، العاقلة الكريمة، والصَّالحة الرَّضية، مَنْ جمعت محامِدَ الأخلاق، وجميلَ الخصالِ، فحَقٌّ لمثلها أن تُرثى، وحَقٌّ لزوجٍ وابن عَمٍّ مثله أن يَستشعرَ اليُتْمَ في فراقها، بعد سنين كانت له فيها نِعْمَ السَّكن وطيبَ الأنس ولطيفَ المَعْشَر.

 عَشَراتُ السّنين جمعتهم على أوثق العُرى وأمتن رباط قدسيّ، تبادلوا أيَّامها بين مودّة ورحمة، وبين تناغم وتكامل، لقد كانت تلك السنوات تجسيداً لمعاني وأسس ((الحظ المبارك))، التي يهدي إلى خيرها وبركتها المولى سبحانه، كما قال الدكتور مُصطفى السّباعي: ((الزَّوجات حظوظُ الأزواج، مهما حاول حُسْنَ الاختيارِ، فإنَّ حظَّه في زوجته من صُنْعِ الأقدار))[4].

 وكان خلفها الوفيّ المؤمن بالله الرَّاضي بأقداره، الذي ورث ذلك الرّزق العميم في الأخلاق والخصال والمحامد؛ حيث تجدُ ذلك اليقين في إيمان بوعد الله، يترجمه دعاءً له، وتضرّعاً في أبيات رثائه لها، متوسّلاً مولاه بخالص الأعمال من توحيده سبحانه، ليؤكّد أنّه على العهد والوعد، وصفات حميدة تجسَّدت فيهم، يتنافسون في الالتزام بها والحفاظ عليها والمبادرة إليها، فهو ميراثُ الأعمال الصالحات والأخلاق الفاضلات.

ولا عجبَ في ذلك، فهو سليلُ المجد، إذ والده ووالدها هما من أحفاد المؤسّس الشيخ جاسم بن محمّد، الَّذي جَمَعَ بين العِبادةِ والقِيادةِ، وبين الحكمة والرّيادة، فأرسى لهذه الدَّولة قواعِدَها على الدِّين والتَّقوى، وربَّى أفرادهَ على كلّ ما يحبُّه الله ويرضى، فكان المؤسّس الإنسان القُدوة، والقائد الشّجاع، والزَّوج المحّب، تعرَّض لما تعرَّض له، حيث توفيت زوجته الشّيخة نور، والدة ابنة الشيخ عبد الله، فرثاها في شعره، ولم تشغله السياسة والحكم والبراعة فيهما عن مشاعره الإنسانية وانفعالاته الوجدانية، وكان كما قاله – رحمه الله – في رثائها:

فعلى سنَّة الرَّحمن صار اجتماعنا

بليل القدر وصبَّحنا الكيف طايب

وقال:

قمنا بها سبع وعشرين حجة

حليفين عهد ما ندوس العتايب

إلى ما قضى الرَّحمن فينا بما قضى

وصبرٍ على ما جاء من الله طايب

وصبر على ما جا من الله طاعة

له الحكم والتّسليم لله واجب

لقد كان جميعهم الأخيار لأهليهم في الحياة، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: ((خيرُكم خيرُكم لأهله))[5]، وكان لهم من القلوب الخيّرة ما استشعروا به خيريّة نسائهم، وحفظوا لهم ذلك العهد والودّ والفضل، وسلكوا مسالك الصَّالحين؛ من ذكرٍ لهم، وتذكير بمحاسنهم، ودعاء وجَّهوه إلى ربِّهم، راجين منه سبحانه شمولهم بعفوٍ وغفران واجتماعٍ في الجنَّات بِمَنٍّ من اللهِ ورضوان.

 

هَمْسَة:

مشاعرُ أبثُّها في ليلةٍ مباركة، ليلةِ الجمعةِ، الثّالث والعشرين من شهر محرَّم من العام 1442ه، السَّاعة 1:02 ليلاً، عسى لكلّ من ذُكِرَ في هذه القُصَاصَة من أسماء؛ للأحياء منهم الحظُّ الأوفرُ من طاعته ورضوانه، وللأمواتِ جنّاتُ الفردوس في رَوْحٍ وريحانٍ منه سبحانه.

[1]  حديثٌ أخرجه البخاري ومسلم.

[2]  رواه الترمذي في سننه، وابن حبّان في صحيحه.

[3]  هو أبو زكريا يحيى بن معاذ الرازي، تُوفي سنة:258 هـ، قال عنه الإمام الذهبي: (الزاهد العارف كان عابداً صالحاً حكيم زمانه وواعظ عصره).

[4]  ينظر: كتاب (هكذا علمتني الحياة) للدكتور مصطفى السباعي، رحمه الله، ص: 132.

[5]  حديثٌ متفق عليه.

النشرة البريدية

اشترك فى النشرة البريدية لمعرفة كل جيد عن الدكتورة نورة