مُحتوى القُصَاصَة

 

إهداءٌ مع وافر الدُّعاء وعاطر الثناء للأخت في الله،
د. نورة، سلَّمها الله،
الدَّاعي لكم
( …………… )

 

قِصَّة القُصَاصَة

كانت ذلك ليلةَ الخميس، في صيف عام 2010م، حين لمحناه خارجاً من فندق الويست بري west berry، والذي يقع في أفخر أحياء مدينة الضَّباب “الماي فير – my feir  “، وعلى جانب أشهر شوارعها “الأولد بوند old bond “، وكنَّا حينَها نستعدُّ لدخول الفندق، وكانت تلك اللّمحة الخاطفة على عجلٍ، فلم تسعفنا لمعرفة شخصه على وَجْهٍ صحيح، حيث استبعد خاطرُنا في الوهلة الأولى أنَّه هو ذاته، تارةً لهندامه؛ فقد كان يرتدي ثوباً خليجياً وكوفية فقط، فهو الذي ترسَّخت صورته في أذهاننا بكامل حُلَّته وثيابه، وأخرى لأنَّنا في مدينة الضَّباب؛ فهي التي لا تناسب شخصه، إذْ هو الَّذي طالما حذَّر من السَّفر لبلدان الكفر وولوج بيئاتها!

ولم نلبث طويلاً، حتى عجَّل الله بزوال شكوكنا في صباح اليوم التالي الجمعة، وبينما نحن عند مدخل الفندق، في انتظار سيّارة تقلّنا إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة، إذا بسيَّارة فارهة داخلها أشخاصٌ تبدو عليهم مظاهر تديّن وملابس خليجية، كانوا في انتظار الشيخ، وقد أخبرونا بشخصه، وأنهم يستعدّون لأخذه لإمامة صلاة الجمعة.

فما كان منّا إلاَّ الإشارة إلى سائقنا في السَّير خلف تلك السيّارة والذَّهاب باتجاهها، حتّى توقَّفنا جميعاً عند المركز الإسلامي في الريجينتس Islamic  center in regents، وهناك كانت تأديَّتنا للصَّلاة؛ فالكلُّ أخذَ موقِعَه؛ البعض داخلَ المسجد والبعض خارجَه، لتزاحم روّاد المسجد والمصلّين، وما هي إلاَّ دقائقُ من الخطبة والصَّلاة، حتى تعالت الأصوات وعَلَت الجَلَبَة داخل المسجد، أعقبها خروجُ شيخنا وعليه مظاهر الهَلَعِ والخَوْفِ، محاطاً برجال الأمن في هيئةٍ مختلفةٍ عن تلك التي دَخَل بها المسجد ،دون شماغ ودون نظارة، وقد تمَّ إدخاله إلى السيَّارة على وجه السّرعة، لتنطلق به بعيداً عن المسجد، وقد ذكر من كانوا داخل المسجد، أنَّ المصلّين قد انقضوا على الشيخ بعد الصَّلاة، ولم يتمّ التبيُّن بعدُ؛ هل هم من المعجبين أم المعارضين أم السَّاخطين!

عرفنا بعد ذلك أنَّ الشيخَ يأتي إلى مدينة الضَّباب للتَّدريب والمشي، لتأهيل نفسه لإمامة الحرم المكيّ في شهر رمضان المبارك؛ حيث كنَّا وقتها في شهر شعبان، وكانت توافق أشهرَ الصَّيف (يوليو وأغسطس).

كان وجودُ الشيخ معنا مقيماً في الفندق مبعثَ راحة وغِبطة وسُرور، ملأت النَّفس فرحاً واطمئناناً وسعادةً، وكان لذلك الحضور الأثر الطيّب في تخفيف تأنيب الضَّمير الَّذي طالما أحسَسْنا به ونحن في البلدان غير الإسلامية.

 تمَّت زيارة الشيخ من قبل أبنائنا، وحَظِيَ الصِّغارُ بصورةٍ تذكاريّة معه، وتمَّ استلامُ هديَّةٍ منه، وهي عبارة عن CD يَحوي قراءته، وقُصَاصَة تحملُ إهداءَه.

وكانت تلك القُصَاصَةُ الأعزَّ و الأبلغَ في نفسي والأكثر فَرَحاً ووَقْعاً على قلبي؛ حيث إنَّها من شخصه وباسمي، احتفظتُ بها لسنواتٍ، وكنت أتحيَّنُ الوقتَ الذي يُمكنني أن أكتبَ قِصَّتها، ولحكمة أرادها الله سبحانه، لم تُكتَب قِصَّتها إلّا بعدَ مرور عشرِ سنواتٍ من استلامها، وبين سَنَةِ الاستلام ومرورِ الأيّام وبين توالي الأحداث الجِسام وتبدّل المواقف والأحكام وانكشاف الحقائق، حتماً ستكون مختلفةَ الحروفِ والمشاعرِ والبَيَانِ لو كُتبت في حينها؛ فالمشاعرُ التي كنَّا نحملها لشيخنا والصُّورة المرسومة له في مخيِّلتنا، والمحبَّة في الله التي نكنّها لمن عرفناهم في جنابه سبحانه، كلُّ ذلك أتت عليه واجتثَّته من قلوبنا مواقفُ وأراء كثيرة لشيخنا اتجاه أمَّةٍ بأكملها كانوا جميعاً بحاجته يومَها، لبيان الحقّ والوقوف مع العدل ونصرة المظلوم!

مواقفُ وآراء فُوجئت بها الأمَّة قاطبةً، بُثّت منْ على منابر الإسلام وعبرَ وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، فحملت ما يخيِّب الآمال ويبعثُ بالغرابة والحسرة والألم، رغم وضوح القضايا والحقائق لعوام النَّاس، فكيف بعلمائها!

لقد جَانَبَ شيخُنا الصَّواب في معالجتها، واستبعدَ في ذلك المعايير الرَّبانية والحُجج الإلهية، ولزم في بعضها الحِيَادَ، وفي معركة الأخلاق يعتبرُ الحِيادُ هزيمةً وخسراناً مبيناً، ولم يسعه ذلك، فسَلك شيخُنا أوعرَها وقلْ إنْ شئت أسوأها؛ من تجميل الأعداء والكافرين إلى مهاجمة أخوَّة الإسلام والمصير وخذلانهم، مع علمه برباطهم وما يتحمّلونه في جُهدهم وجِهادهم عن أولى القبلتين وكرامة المسلمين.

 ثمَّ إذا به بقي صامتاً في مواضع وجَبَ عليه أن ينتصر فيها لمن هو على الصَّواب ولو بالرَّأي، كما هو موقفه ممَّا تعرَّض له القطريون في بيت الله الحرام وشهره الفضيل، زِدْ على ذلك أنَّه لم يستشعر مسؤوليته ودوره في ثني ولاةِ أمرِه عن سياساتٍ عَثَتْ في ديارهم فساداً والمجتمع دماراً.

لقد خسر شيخُنا هذه المعركة (معركة المواقف الأخلاقية)، وخسر بها الأرصدة البشرية المليونية، بقدر ما اكتسبها في جموع المصلّين والخاشعين الدَّامعين؛ الَّذين يفيضُ بهم حَرَمُه الآمنُ وقبلةُ المسلمين وملاذُ المؤمنين.

محاولاتٌ كثيرة جالت في الخاطر لتبرير كلِّ ذلك أو بعضه، إلاَّ أنَّ الأمرَ تلاشى عندما تتبَّعتُ قصَّةَ الإمام أحمد بن حنبل -يرحمه الله-وموقفه من خَلْقِ القرآن، وما تحمَّل في سبيل ذلك من أذىً لثباتِ رأيه وبيان حجَّته، خوفاً على أتباعه وطلبة علمه؛ وهو القدوةُ لهم، وخوفاً عليهم من زَيْغِ قلوبهم، وهذا ما غَفَلَ عنه شيخُنا!

لقد عُوتِبَ الإمام أحمد من بعض أصحابه، في جفائه لرفقاء دربه، ممَّن استسلم منهم للفتنة، مُعلّلِين ذلك بأنهم أكْرِهُوا ومستندين إلى الآية الكريمة: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}. (النحل: 106)، فجاءهم الردُّ منه رضوان الله عليه: ((لَيْتَهُم أكْرِهُوا)). والقول يتكرَّر في شيخِنا ((لَيْتَهُ أكْرِه))، عُذراً إلى الله وإلى جموعٍ كانت ترى فيه القدوةَ، وتسمع منه آياتِ الله.

إنَّ فاجعة الأمَّة في أئمّتها وعلمائها ودعاتها فادحة، لقد نعوهم وهم أحياء، خسروا أرصدةً من البشر، أقلُّ حقوقها عندهم هو تبيانُ الحقِّ والثباتُ عليه.

لقد فَقَدَ كثيرٌ من علمائنا ودعاتنا اليوم مكانتهم؛ بسبب بُعْدِهم عن الموضوعية في التَّعامل مع الأحداث والمستجدات والنوازل في السَّاحة العربية والإسلامية، لأنَّ المحافظة على تلك المكانة لن تكون إلاَّ بالانحياز للقيم والمبادئ، حيث تكون التكلفة باهظة، وأنَّ الدَّعوة للحقّ لن تنتصر بإيثار سلام وعدم تضحيَّة، ولنا في ذلك أمثلة كثيرة في قصص الأنبياء والمرسلين، وسيرة الصَّحابة والتَّابعين، وحياة الدُّعاة والصَّالحين، ليحفظها الله تعالى ذكرى ناصعة وخالدة، تمثّل القدوةَ والمثلَ الأعلى للأجيال المسلمة عبر التاريخ، وليسجّل التاريخ نفسُه مواقفَ أخرى جانَبَت الصَّواب وأخطأت الطريق وابتعدت عن قِيَمِ الموضوعية والعدل والإنصاف، فهي كالزّبد الذي يصير غثاءً، وإنْ عَلا فصعودُه مؤقّت، ولكنَّ مصيرَه الاضمحلالُ والتبدُّد والتَّلاشي، قال الله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}. (الرعد: 17).

 ولكنَّ سنةَ الله الماضية في الآفاق والأنفس، التي تحكمها تقاديرُ وحكمة وهداية المولى سبحانه، فهو الله التوَّاب والغَفُور الهَادِي؛ {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ}. (طه:82)، وعسى أن يمنَّ بتوبة نصوح تَجُبُّ ما مَضَى وتُصلِح ما بقي، تُنَار بها سُبل الهداية والتوفيق، وتجعل منها تباشيرَ ومقدّماتٍ لنصرةِ الدِّين وبيانِ الحقّ والوقوفِ معه والدَّعوةِ إليه، وعسى أن يكون لشيخِنا في ذلك، وافرُ الحظ وجميلُ النَّصيب.

لتحميل القصاصة القصاصة السَّابِعَة

النشرة البريدية

اشترك فى النشرة البريدية لمعرفة كل جيد عن الدكتورة نورة