قِصَّة القُصَاصَة 

   ((النَّوايا … مَطَايَا))

بدايةً، أعتذر لك أيّها القارئ الكريم عند رؤيتك لهذه القُصَاصَة ممزقة مهترئة، ولعلّك تعذرني، إذا علمت أنَّني منذ ظفرت بها عام ٢٠٠٣م، وهي متصدّرة سطح مكتبي، وكانت ميداناً لهواجسي ومنبعاً لملاحظاتي، ومورداً لكثير من أفكاري، وزاداً ومعيناً لي في أعمالي؛ حيث حرصت أن تكون أمام عيني، حاضرةً في عقلي، تحتل مكانة في صلب الاهتمامات والأولويات في هذه الحياة.

هذه القُصَاصَة بكلماتها المعبّرة، تَفْتَتِحُ حروفُها بإشاراتٍ وعلاماتٍ تشبّه إلى حدّ كبير ((إشارات المرور))، ((قف))، ((انتبه))، ففي سيرنا وطريقنا وسعينا في هذه الحياة، نحتاج إلى وقفات مع النَّفس بين الفينة والأخرى، كما نحتاج إلى الانتباه واليقظة حتى لا تزلّ الأقدام وتضيع البوصلة.

وقد حوت هذه القصاصة جملة لامست شيئاً في قلبي، شيئاً كنت أبحث عنه منذ بداية عمري، ولعلّي وجدت في عباراتها ما يقرّبني لمعرفته، ويدلّني إلى سبل الوصول إليه.

 إنّه الإخلاص سرّ قبول الأعمال ونيل الأجر والثواب، إنَّه التوجّه الخالص إلى الله سبحانه، {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}. (الأنعام:19)، فالله تعالى هو الَّذي تُوجَّه إليه الأعمال والأقوال والسَّرائر، ويُطلَب منه القبول والرّضا والتوفيق، لأنّه {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}. (غافر:19).

 

 ((لا تطلب لعملك شاهداً غير الله)): المطلب هنا شرطٌ عزيز، لكنّه صعب المنال، إلاَّ بحولٍ من الله وقوَّته، والخصم في معركة الإخلاص ألدُّ الأعداء، نفسٌ تستوطنُ بين جنبيك، على الرَّغم من عظيم الجوائز والعطايا، فهناك ذكرٌ وحبٌّ لك في السَّماء وقَبولٌ لك في الأرض، ليس مطلوباً له مؤهلات سوى ((نيَّة خالصة))، علمها الله، وأراها العباد عملاً نافعاً وسعياً مشكوراً.

ويبقى ميزان العدل الرّباني هو الفيصلُ في ترجيح الأعمال الخالصة {إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا}. فالخيرات وما يتبعها من بركات وتوفيق للأعمال الصالحات تجلبها نيّة الخير، قال ابن قيم الجوزية: ((على قَدْرِ صلاح النَّوايا تأتي العطايا))[1]، وقد كان بعضُ الأئمَّة يقول: ((إنّي أُحِبُّ أن يكونَ لي نيَّةُ في كلِّ شيءٍ، حتّى في نومِي وأكلِي وشربِي)).

لقد كنتُ كثيراً ما أحدّثُ نفسي؛ هل لي بمعرفة حقيقة نيّتي: ((ربِّ هَبْ لي شيئاً تطمئن به نفسي)) ؟!

وأعجب كيف أفلح لأصحاب الغار في تحديد وانتقاء خالص أعمالهم ؟!  وسألوا الله سبحانه بها عندما اشتدّت حاجتهم وضاقت بهم السّبل؟!

ما العمل الذي أجزم بإخلاصي فيه حتَّى أتوسَّل إلى الله تعالى به؟

أسئلة لا تملك حيالها إلاَّ حبّاً له سبحانه تستودعك بين جوانحك، وانكساراً بين يديه تعالى تبديه في الخلوات، ثمَّ عزاءً في سلف صالحٍ عسى أن نُجمَع بهم بمنّه وكرمه، فهو القادر سبحانه، احتاروا في أمرها، وجاهدوا في الوصول بها للإخلاص، ثمَّ استسلام لمن يملك قلباً يحويها وهو الرَّحمن الرَّحيم بها.

إنَّ استحضارها جهادٌ، وتجديدُها يحتاجُ إلى مُنبّه إلهيّ، حتَّى لا تنحرف بوصلته من طاعات إلى عادات تؤدّى بوتيرة يغيب عندها العقل ويغفل عنها الشعور ويتحكَّم فيها الهوى.

أمّا إصلاحها فيحتاجُ إلى جيش غير منظور، يأخذ بالقلب ليحقّق الهدف بسكينه وسلام، قادر على القوَّة المضادة التي تفتك بالعمل، فتجعله لا قبولَ له ولا أثرَ، كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا}. (الفرقان:23).

 

 فإذا غابت النيَّة كان تعباً لا أثر له، وعناءً لا فائدة منه، فإذا انعدم الإخلاص في الأعمال أصبحت رياءً وسمعة وهدفاً لا يُبتغى فيه وجه الله تعالى، وقد سمّاه الرَّسول صلَّى الله عليه وسلّم ((الشرك الأصغر))، وحذّر أمّته منه، ففي الحديث: ((إنَّ أَخْوَفَ ما أَخافُ عليكُمُ الشِّركُ الأصغرُ، الرِّياءُ، يَقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ إذا جَزَى النَّاسَ بأعمالِهِم: اذهَبوا إلى الَّذين كنتُم تُراؤُون في الدُّنيا، فانظُروا هل تَجِدون عندَهُم جَزاءً؟))[2].

وقد بشّر الرّسول صلّى الله عليه وسلّم أمّته وجاء الوعيد لكلّ من يعمل العمل لغير الله: ((بشّر هذه الأمَّة بالثناء والعزّ والرفعة والدّين والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدّنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب))[3].

إنَّها تحظى بهذه المكانة العظيمة فشأنها كبير، وتستحق هذا التخويف فشأنها خطير، ذلك أنَّ مكانها ومستودعها مضغة صغيرة هي محطّ نظر الله عزّ وجل، وبصلاحها يصلح الجسد كلّه أو يفسد الجسد كلّه، كما أخبر المصطفى عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام: ((أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ))[4].

الأمر ليس سهلاً، وهو مرتقى صعبُ المنال، قيل فيه: ((إنَّه عزيزٌ ومرتقىً صعبٌ، تبحث عنه في الزّحام الكثيف عن المخلصين فتروعك ندرتهم)). وقد عانى منه الصَّالحون، فكيف تصحّح النيَّة إذا لم يعرف حقيقة الإخلاص فيها، يقول يحيى بن أبي كثير: ((تعلَّموا النّيَّة، فإنَّها أبلغُ من العمل)). وكان سفيان الثوري يقول: ((ما عالجتُ شيئاً أشدَّ عليَّ من نيَّتي إنَّها تتقلَّب عليَّ)).

وعندما تتَّبع قصص الإخلاص، لأيقنت أنَّه منّة من الله يكحل بها عيون الصَّادقين، كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}. (العنكبوت:69).

نقرأ لسلفنا الصَّالح، فيزداد خوفنا من نيّاتنا، ونحاول أن نراها في أحياء حولنا فأرقب تصرّفات من أتوسم فيهم الخير لعليّ أن أفوز بما يعينني على هذه النية، فآخذ بزمامها لتحقيق إخلاصٍ عملي مرهون به ((قبولاً أو هباءً منثوراً))، فأجد أنَّ تحقيقه عزيز، حيث لا يتجاوز البعض أولى درجات الاختبار، حتَّى يتساقطوا بسبب دنيا يرون أنَّهم هم الأولى بها، وهم يتنافسون على كتاب ربّ العالمين، ويغفلون عن أعظم منح الوجود، وكفى بها من منحة إلهيَّة، اختصّهم بها ربّ العالمين، ولكنَّهم لا يكتفون!

 ونجد آخرين يخسرون أخلاقاً، لتُثبَّتَ لهم درجة أو درجتين في تقييم بشريّ، لا يراه عدلاً في حقّ ذاته، فتعجب أن تجد هذا التقلّب للنيّات، في بيئات كلّ زاوية من زواياها تذكّرك بالله وعظيم الأجر في الدَّار الآخرة، فكيف بنيَّة الآخرين، وهم في معترك الحياة، تقاذفهم الأهواء والتَّنافس على دنيا إلى زوال وسعيّ بائس لا يهب عمراً ولا يحقّق سعادة {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}. (الشعراء :88 -89).

إنَّها القلوب؛ هي بيتُ النّوايا التي يجب أن نتعهدها صيانةً ورعايةً، هي الرَّاحلة ((المطيَّة)) التي ستوصلنا في الدُّنيا، لننال خيرَ ما فيها من سعادة وطمأنينة، وهي راحلتك التي ستحملك يوم الحساب إن سَلِمَت إلى الفوز برضى ربّ العالمين، كما قال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنَّما يُبْعثُ النَّاسُ على نِيَّاتهم))[5]، وقال ابن عبّاس رضي الله عنه: ((إنّما يُحفظ الرَّجل على قدر نيّته))، وكان جعفر بن حيَّان يقول: ((ملاكُ هذه الأعمالِ النيّاتُ، فإنَّ الرَّجلَ يَبْلُغُ بِنِيَّتِه مَالاَ يَبْلُغُهُ بِعَمَلِهِ)).

 وهذا ما نجده في حديث التَّابعي الجليل القاسم بن محمَّد[6]، الذي يقول فيه: ((كنَّا نسافر مع ابن المبارك، فكثيراً ما أحدث نفسي بأيّ شيء فضّل هذا الرَّجل علينا، ولنا من العمل مثل أعماله، حتى توقفنا للعشاء في إحدى سفراتنا، وأنطفأ السّراج، فأخذه أحدُهم ليسرجه، ثمَّ عاد بعد هنيهة، فأضاء المكان، فنظرت في وجه ابن المبارك، فإذا لحيته مخضَّبة بالدّموع، فعرفت بأنَّ هذا الخشوعَ هو الَّذي فضَّله علينا، فلعلّه تذكَّر في هذه الظلمة ظلمات القيامة))[7].

ترى حرصَ السَّلف الصالح على كتمان أعمالهم، فتعجب من شدَّة بأسهم، ونصر حقَّقوه على نفوسهم، وقد ضربوا في ذلك أروع الأمثلة في ذلك، كما قال فيهم التابعي الكبير الحسن البصري، رضي الله عنه: (لقد أدركنا أقواماً، أهل القرن الأوَّل عشرين عاماً، ينامون مع أهلهم على وِسادة واحدة، تبتل دموعهم لا يشعر بهم من بجانبهم، رضوان الله عليهم أجمعين)[8].

 لقد عرفوا حقيقة الإخلاص، وجاهدوا في سبيل تجسيدها في حياتهم، ليسلموا به قلوبهم، وتسمو به أرواحهم، وتتعالى به أجسامهم عن حطام الدُّنيا، لتتغلّب على مغرياتها وشهواتها، وفي بيان ذلك، يقول ابنُ قيم الجوزية: ((الإخلاص هو ما لا يعلمه مَلِكٌ فيسلبه، ولا عدوٌّ فيفسده، ولا يعجب به صاحبُه فيبطله))[9].

إنَّه الإخلاص العزيز على النَّفس، لأنَّه ليس لها فيه نصيبٌ، وقد ذُكرت تلك النفس بأنَّها الأمَّارة بالسُّوء، وهي في قلوب الصَّالحين، {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. (يوسف: 53).

فعزاؤنا في الأمر كلّه رجاءٌ من يملك القلوب ويقلّبها أن يسلّمها ويخلص نِيّاتها، وعدّتنا في ذلك دعاءٌ وفقط، هو دعاءٌ ليس هناك سبيلٌ آخر، فهو القريبُ المجيبُ، نستودعه قلوباً يقلّبها، سائلين سبحانه ثَبَاتَها، وأخرى تصريفها إلى طاعات يقبلها، وخير به يعمرها، كما قال الإمام أحمد بن حنبل في وصيته لولده عبد الله: ((يا بني، انوِ الخيرَ، فإنَّك لا تزال بخيرٍ ما نَويتَ الخَيْرَ)).

قال ابنُ مفلح المقدسي: (وهذه وصية عظيمة سهلة على المسؤول، سهلة الفهم والامتثال على السَّائل، وفاعلها ثوابه دائم مستمر؛ لدوامها واستمرارها، وهي صادقة على جميع أعمال القلوب المطلوبة شرعًا، سواء تعلّقت بالخالق أو بالمخلوق، وأنّها يُثاب عليها)[10].

وأخيراً وليس آخراً، ونحن نحثّ الخطى نتلّمس روحَ الإخلاص وسكينته في نفوسنا، نرفعُ أيدينا مستسلمين وأكفنا راغبين، لله ربّ العالمين، بأن يتولّى قلوباً أعيانا جهادها، وقصر إدراكنا عن فهم حقيقة إخلاصها، فاللهمّ يا ربّ أنت خالقها وبارئها، فتولّها بعَيْنِ عيانتك، وأتمّ رعايتك، وزدها من فضلك، حتَّى تنعم بالسَّلامة والإسلام والأمن والأمان، وتزداد إخلاصاً وخشية لله تعالى { مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ }. (ق:33).

ولتكون كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: ((ليس في القلب السَّليم أحلى ولا أطيبَ ولا ألذَّ ولا أسرَّ ولا أنعمَ من حلاوة الإيمان المتضمّن عبوديته لله ومحبّته له وإخلاص الدّين له))، وفي وصية الإمام أحمد بن حنبل: ((إنْ أحببت أن يدوم اللهُ لك على ما تحبّ، فدُمْ له على ما يحب)).

[1]  ينظر: كتاب (الفوائد) لابن قيم الجوزية.

[2]  أخرجه الإمام أحمد في مسنده.

[3]  أخرجه الإمام أحمد في مسنده.

[4]  حديثٌ متفق عليه.

[5]  رواه ابن ماجه في سننه بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[6]  هو أبو محمد القاسم بن محمد بن أبي بكر التيمي، من خيار التابعين وفقهائهم، توفي سنة 107 للهجرة.

[7]  ينظر: كتاب (صفة الصفوة) للإمام أبي الفرج ابن الجوزي.

[8]  ينظر: كتاب (فيض القدير شرح الجامع الصغير) للإمام عبد الرؤوف المناوي، 3/479.

[9]  ينظر: كتاب (الفوائد)، لابن قيم الجوزية.

[10]  ينظر: كتاب (الآداب الشرعية والمنح المرعية)، لابن مفلح المقدسي، 1/104.

النشرة البريدية

اشترك فى النشرة البريدية لمعرفة كل جيد عن الدكتورة نورة