قِصَّة القُصَاصَة 

قُصَاصَة أو (رسالة) وصلتني من صديقة، ضمَّنتها أطيبَ الكلمات، وجميلَ المعاني، وأبلغ العبارات، زادها جمالاً خطٌّ عربيٌّ خُطَّت به، وروحٌ أخوية بُثَّت من بين سطورها، وعبقٌ من وشائج المحبّة في الله، سرى بين حروف: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}. (الأنفال:63).

كانت تلك الرّسالة أو ((القُصاصة)) مرفقة بهدية، ذكرت صاحبتها بأنَّها تحديداً لمحبَّة حواها قلبها، واقتداءً بحبيبنا المصطفى، صلّى الله عليه وسلّم، قاطفةً من كلّ شيء الأجملَ، كما تنتقي من الزَّهر أجملَه ومن الرّحيق أطيبه ومن الحسن أبهجه.

لا أذكرُ تاريخ استلامي لهما، ولكنّي لا زلت أذكر أوَّل بطاقة استلمتها منها في بداية التسعينيات، عندما جمعنا مجلسُ ذكر، التقينا فيه على آياتٍ لله تُتلى، وحديثٍ للرَّسول، صلَّى الله عليه وسلَّم، بهديه يُقتدى، وبسنَّته وسيرته يُهتدى.

 تقاربت فيه القلوب على التَّقوى، والتقت فيه النُّفوس على الطاعة، وأبرم فيه ميثاقُ أخوَّةٍ فيه سبحانه هو أوثق العُرى، حتى إذا كان من الغد، فإذا مجموعة من كتاب ((زاد المعاد))، مصحوبة برسالة كهذه التي استلمتها، محمَّلة بكلّ معاني المحبَّة الأخوية وكريم الشمائل الأخلاقية، لتبدأ صداقة في جلاله سبحانه، ثمَّ عقدها وعلى منهجه قامت علاقتها.

 وقد أخبر الرّسول صلّى الله عليه وسلّم صحابته الكرام، رضوان الله عليهم، عن حقيقة هذه الأخوّة ومنزلتها وثمرتها وبركتها وثوابها، فقال: ((واعلموا أنَّ لله عزَّ وجلَّ عبادًا ليسوا بأنبياءَ ولا شهداءَ، يغبِطهم النَّبيّونَ والشُّهداءُ على منازلِهم وقُربهم من اللهِ))، ثمَّ ذكر أوصافهم: ((لم تَصِلْ بينهم أرحامٌ مُتقاربةٌ، تحابُّوا في اللهِ وتصافَوا، يضع اللهُ لهم يومَ القيامةِ منابرَ من نورٍ فيجلِسون عليها، فيجعل وجوهَهم نورًا، وثيابَهم نورًا، يفزع النَّاسُ يومَ القيامةِ ولا يفزِعون، وهم أولياءُ اللهِ لا خوفَ عليهم ولا هم يحزَنون)).

 إنَّها الصداقة بمعانيها ومشاعرها وصفائها، حتى إنَّ الإنسان ليرى أنَّ لقب الصداقة قليلٌ في حقّها، بل هو أكثر من ذلك، فهي الأخوَّة بأعمق معانيها، كما قال الشَّاعر[1]:

لَيْسَ الصَّدِيقُ الَّذِي تَعْلُو مَنَاسِبُهُ

                                                          بَلِ الصَّدِيقُ الَّذِي تَزْكُو شَمَائِلُهُ

 

وكم أسعدُ عندما أمرّ على الآية في سورة النُّور، وأتلو {… أَوْ صَدِيقِكُمْ}، حيث يجعل الله تعالى (الصَّديق) في مقام الأرحام من ذي الدَّم والقربى، وهو من صدق موّدته ورفع الحرج من إتيان بيت صاحبه والأكل من طعامه.

ومن المعاني اللُّغوية لمفردة (الصَّديق)، أنَّها تُطلق على المفرد كما تطلق على الجمع، لأنَّ الأصدقاء إذا كانوا على قلبِ رجلٍ واحدٍ فهم حقيقة أصدقاء بأتمّ معنى الكلمة، لأنَّ حقيقة المسلمين كذلك، كما ورد في الحديث النبويّ الشَّريف: ((المسلمون كرَجلٍ واحدٍ، إِنْ اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِنْ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ))[2].

إنَّ مشاعر الصَّداقة من أجمل المشاعر والأحاسيس التي تعمر بها القلوب، لتمتلئ حبّاً ونقاءً لأطرافها، فتنحت فيها مشاعر رائعة تجعل ذكراها لا تُمحى والشَّوق لرؤياهم دائماً لا ينسى، والفخر بمحبَّتهم والتشرّف بصحبتهم، وقد ورد عن الخليفة الرّاشد عمر الفاروق رضي الله عنه أنَّه قال: ((عليك بإخوان الصّدق، فعِشْ في أكنافِهم؛ فإنَّهم زينة في الرَّخاء وعُدَّة في البَلاء))، وقال بعض السَّلف: ((استكثروا من الإخوان، فإنَّ لكلِّ مؤمن شفاعة)).

إنَّ لقاءهم من متع الحياة وأنس الرّوح، وقد عشت هذه المشاعر عندما اتفقت مع إحدى صديقاتي للقاء بعد فترة الحجر التي فرضتها جائحة ((كورونا))، حتى إذا تمَّ اللّقاء، عشنا سعادته وبهجته، وانتعشت الأرواح والقلوب وتمَّ شحنها بطاقة فرح تكفيها زمناً، وصدق من قال: ((لقاء الإخوان جلاء الأحزان)).

إنَّها فرحة مكانها الوجدان والفرحة التي لا توزن بميزان ولا تقدَّر بأثمان، فهي الصَّداقة الَّتي تُبهج القلب بمشاعرها كما تبهج الزّهور النَّاظر إليها، زهور محبَّة لا أشواك فيها، والصداقة في حقيقتها كزهرة في القلب نابضة بالحياة والمحبَّة بقدر نبضاته، وهي كالعلاقة بين العين واليد، إذا تألَّمت اليد دمعت العين، وإذا دمعت العين مسحتها اليد، حتَّى في أصعب المواقف يكون للصديق وجودٌ، وهذا ما ذكرته الآية الكريمة: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ}. (الشعراء:100-101)، حيث يبحث الضَّالون يوم القيامة عن صديق يشفق عليهم، أو يهتم لأمرهم ويخلصهم من عذابٍ يواجهونه.

هم الَّذين أمرنا المولى سبحانه أن نبحث عنهم لنصادقهم ونشاركهم الأخوّة والمحبّة، فقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطً}. (الكهف:28).

 وهم الَّذين يجمع بينهم رابط الإيمان، وتؤلّف بين قلوبهم التَّقوى، حتىّ إذا فزع النّاس يوم القيامة وتصادم الأخلاء وأصبحوا أعداء، فازوا هم: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}. (الزخرف:67). قال ابنُ عبَّاس: (فكلّ خُلَّةٍ هي عداوة إلاّ خلّة المتّقين).

وهم الَّذين إذا جاؤوا يوم القيامة، جاؤوا بقلوب سليمة صافية {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}. (الحجر:47).

وهم الذين عدّهم الرّسول، عليه الصّلاة والسَّلام من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه: ((ورجلان تحابَّا في الله، اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه)). وقال صلّى الله عليه وسلّم: ((إنَّ الله يقول يوم القيامة: أين المتحابّون بجلالي اليوم أُظلّهم في ظلّي يوم لا ظلَّ إلا ظلّي))[3].

إنَّ الصداقات نعيمُ الحياة المعجَّل، صحبتهم هي المتعة التي لا يطيب العيش إلاّ بهم، وهم النَّماذج الفريدة للحياة السَّعيدة، يقول الشَّاعر[4]:

 

           يا صاحِبي وَهَواكَ يَجذُبُني

                                                     حَتّى لَأَحسَبُ بَينَنا رَحِماً

              ما ضَرَّنا وَالوِدُّ مُلتَئِمٌ

                                                   أَن لا يَكونَ الشَملُ مُلتَئماً

إنَّ من عظيم الأرزاق أصدقاء تحبُّهم ويحبّونك، يبادلونك المشاعر، ويعيشون مشاركين لك حياتك، طيفهم سعادة ورؤيتهم قرَّة عين، والحديث معهم أُنس وراحة، وإنْ باعدت الظروف بينكم، إلاَّ أنَّ البقاء على العهد قائمٌ، وإن طالت الأوقات وبعدت المسافات، فهي ليست بطول السّنين، بل بصدق المواقف، ولبقائها وديمومتها والحفاظ على رونقها، وحفظ حقوقها والالتزام بآدابها، والبعد عن تكلّف أو تكليف يهدّدها أو تطفّل أو اعتداء على خصوصية تضعفها، أو دفع أطرافها لكشف ما لا يُحسن كشفه.

كثيرةٌ هي الثَّروات التي يتطلَّع لها الإنسانُ، ولكنَّ الثَّراءَ الحقيقي في حصيلة مُخلصة من الأصدقاء، يمتلئ القلب بحبّهم، ويتعبَّد لله تقرّباً ودعاءً لهم، هم العدَّة في الدُّنيا وهم الشُّهداءُ والشّفعاءُ يوم الحساب، هم الثَّروة التي لا يمكن أن تُوزن بميزان أو تقدَّر بأثمان.

فجزاهم الله عن صداقتهم خيرَ الجزاء، وما قصرَّنا في حقّها، فعسى أن يتحمَّله ربٌّ كريم جَوَاد.

 

هَمْسَةٌ:

لتكن صديقاً يأخذ بيد صديقه، ليكون أقوى عندما يشكو ضعفاً، وكن صديقاً يحرص على عودة قلب صديقه صفواً إذا اشتكى إليك كدراً.

[1]  البيت للشاعر محمود سامي البارودي، يعتبر رائداً من روّاد الشعر العربي في العصر الحديث، (1839م-1904م).

[2]  أخرجه الإمام مسلم في صحيحه

[3]  أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[4]  البيت للشاعر إيليا أبو ماضي، من كبار شعراء المهجر، (1889م-1957م).

النشرة البريدية

اشترك فى النشرة البريدية لمعرفة كل جيد عن الدكتورة نورة