مُحتوى القُصَاصَة

 

 اللَّهمَّ مع المغاربْ واللَّيلِ القَاربْ، أجِرْنا مِنَ المَكَارِبْ
يا اللهُ معَ غُروبِها تُجِيرُنا مِنْ كُرُوبِها
اكتبْ ما صلَّيتْ واغفِر ما خلّيتْ
اكتبْ حَسَنَاتي واغفِرْ زَلاَّتِي
يا اللهُ، إنَّك تملأ الفَمْ وتُجْلِي الهَمْ
يا اللهُ مع الصُّبْحِ الجَدِيدْ تُجِيرُنا من فُرْقَةِ الحَبِيبْ

 

قِصَّة القُصَاصَة

من أجلّ النِّعم التي حَبَانا الله بها في هذه الدُّنيا بعدَ نعمةِ الإسلام، وطنٌ تعيشُ فيه آمناً في رحابه، تنعم بعزّ الحريَّة وكرامة العيش، تسيحُ في أرضه مُمتِّعاً ناظريك بمنشآت تبهر زائرها برونقها وروعة تصميمها ورقيّ خدماتها.

وممَّا يضفي على كلّ ذلك جمالاً، حضورُ أشخاصٍ يشكّل وجودُهم في الحياة تحفة جمالية أخلاقية ناطقة، تلامس وجدان الإنسان بما تنتقيه من ألفاظ، فتقدّمها في قَالب من الأدب والإحسان، وبما تعرضه من خدماتٍ وتسهيلات، تقول بلسان حالها: “استمتع بالجمال وأبشر بتيسير المهام”.

نعم، إنَّه نموذجٌ يسرُّك رؤيته، من شباب الوطن الأمناء الأَكْفَاء المخلصين، يعكس في تعامله شعوره بالمسؤولية وواجب المواطنة وحقّ الوظيفة، مؤمناً بأنَّ دولة قطر تستحق الأفضل، والأمانة تقتضي أن تُقدّم الخدمة بأجود اتقان وأحسن بيان.

لقيته عند تفقدّي لمشروع في مَعْلَمٍ سياحي، لأشخاص يهمّني دعمهم ونجاح مشروعهم؛ فإذا هو يستقبلنا عارضاً خدماته ودعمه؛ فهو الذي يشغل منصباً مهمّاً في ذلك المَعْلم، وقبل أن يُعَرّفني بشخصه الكريم، إذا هو يقول: “واللهِ، يا يمَّهْ، لولا الحياءُ لحبّيت راسش”، بلغته العاميَّة، وتعني: “والله، يا أمّي لولا الحياءُ لقبَّلتُ رأسك”.

  أدركت من هذه العبارة اللطيفة الحانية، أنَّ هناك أمراً لابدَّ من معرفته، وعندما ذكر اسمه واسم والدته، فإذا هو ذاك الطفل الذي كانت والدته تصطحبه في زيارتها لنا، تلك المرأة التي عُرفت بوفائها لمعارفها وصديقاتها، والتي كثيراً ما كانت تشير إليه، وتقول أنا ما يهمّني إلاَّ ((……….)) أنَّه يكمل دراسته، أمَّا أخوه ((……….)) فالله يعينني، أرسل له ما يكفيه أربه يعين أباه في ضمِّ الحلال؛ [يعني يرعى إبلهم].

تذكَّرت ذلك عندما رأيت ((……….))، وفاجأني بشخصه الكريم، وحمدت الله سبحانه، أن حقَّق لوالدتنا التقيَّة والتي -لا أزكّيها على الله -حُلُمَها ورأتْهُ كما أراه اليومَ، وقد تبوَّأ أعلى المناصب.

شريطٌ من الذكريات يمرُّ على خاطري، لأتذكَّر أياماً خلت، تتخلَّلُها زياراتٌ لتلك المرأة الجليلة، والتي أترَّقب زياراتها لي وأفرحُ برؤيتها؛ حيث تذكرني بزوّار أُمّي يرحمها الله.

كانت قريبة من أعمارهم، لها نفسُ السَّمْت الوقور والحياء المحمود، تجمعهم ثقافاتٌ معرفيَّة تعكسها أخلاقُهم وطِيبتُهم وعَفويَّتهم؛ فقد كانوا ((زوَّار أمّي يرحمهم الله)) يتوافدون عليها ضُحىً حتَّى منتصف النَّهار، لظروف ذلك الزَّمان، من صعوبة وسائل النقل وبُعد المكان، حيث كانوا يقطنون “تمبك”، في منطقة الشَّمال والعطورية في الوسط ومنطقة السكك[1] في الجنوب، ويتوافدون على بيتنا، بعد قضاء حوائجهم، سواءً للعلاج في المستشفى أو التسوّق وشراء الحاجات.

كانت زياراتهم تدخل السُّرور في أرجاء البيت وتملؤه بالحركة والنشاط، وكنَّا نفرحُ كأطفالٍ بهذه الزيارات التي يكون الأطفال جزءاً منها، حيث تزدادُ متعتُنا وتتوسَّع مداركنا، بتبادل الخبرات وتنوّع الثقافات واختلاف البيئات، وكنّا نستقي دروساً بليغة وقتها من أمّي – يرحمها الله – في حسن الاستقبال وكرم الضيافة وواجب الوفادة، تحتاج تلك الدروس اليوم إلى دورات عملية ومنهجية وسنوات لتعلّمها.

عندها رجعت إلى كتاب وردي، وتذكَّرت ذلك اليوم الذي زارتني فيه والدة ((……….)) وكان يومَ جمعةٍ، عندما توقَّفت في صلاتي، لأسمعَ مناجاتها لربّها، بلغتها وعفويتها، وسألتها حينَها: “يا أمّي، علّميني إيش تقولين؟”، فكتبت جزءاً من مناجاتها، على كتاب “أذكاري اليومي”، وأنا مبهورة من عطاء الله، فسبحان من أجرى هذا الدُّعاء على لسانها، والذي أعلمُ علمَ اليقين، أنَّه سبحانه ما أجراه إلاَّ ليتمِّمه لها.

تأكَّدت بأنَّ الله كريمٌ مجيبٌ قريبٌ، وفلان ((……….)) هو ثمرة لذلك الدُّعاء، ونتيجة ليقين تعاملت به بصدق مع ربِّ العالمين، صدقت في توجّهها إليه، وحسن ظنّ به، فلم يكن ضعفُ الحال حائلاً، ولا صعوبةُ الظروف عائقاً من رسوخ وعمق إيمانها بالله سبحانه الكريم.

نعم، إنَّه هو (…) من صنعته تلك الأمّ، التقيَّة هو نتاجُ المناجاة والانكسار بين يدي الله وبثّ الحاجات، هو نتاج ذلك الجهد بلا كَلَلٍ، وحسن الظنّ الخالي من القنوط، هو الثقة بالربّ بلا حدٍّ ولا أمَدٍ، فلا عجبَ في رؤيته بهذا الشكل والخُلق والأمانة والأدب.

إنَّ عباداتِ القلب التي يشكّل الدَّعاءُ والمناجاة جوهرَها هي المنوطة بتحديدِ مصيرنا ونهاية مطافنا؛ فهو القلب في بدايات الأعمال وهو القلب في النهايات، والله يتولّى ذلك بحمايته ورعايته وتوفيقه: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}. (الشعراء: 89).

فما أحوجنا لقلوبٍ تدركُ أنَّ أمرَها مُوكَلٌ إلى ربٍّ رحيمٍ حكيمٍ خبيرٍ، فتحيا مطمئنةً به سبحانه، ساعيةً إلى مرضاته، واثقةً من حكيم تدبيره وجميل توفيقه وكريم عطائه.

[1] “السكك” منطقة قرب أبو سمرة الحدودية، كانت تقطنها العائلة صيفاً، وهي تمثل واحة وبيوتاً تحوي مزارعهم، وعند تسوية الحدود تمَّ ضمَّها للملكة العربية السعودية، ممَّا شكّل صعوبة لأهلها في الوصول إليها، وأدَّى إلى هجرها وبقيت أطلالاً تمثل تاريخاً لهم مضى، وحقبة خلت من الزَّمن الماضي.

لتحميل القصاصة القصاصة الرَّابعة

النشرة البريدية

اشترك فى النشرة البريدية لمعرفة كل جيد عن الدكتورة نورة