قِصَّة القُصَاصَة 

قُصَاصة اقتطفتها من إحدى المجلات النسائية، جذبني محتواها، فاحتفظت بها أعواماً عدَّة، وتصدَّرت سطح مكتبي مع قصاصات أخرى؛ حرصت أن تكون أمام ناظري، لحاجتي لها في تذكير النَّفس بمحتواها بين ساعة وأخرى.

كانت هذه القُصاصة و((القُصاصة السَّادسة والعشرون)) التي سبقتها في هذا الكتاب، وجاورتها سابقاً على المكتب نفسه، ومن غير سابق تدبير، أجدني أكتبُ قصَّتهما على التوالي، فلقد شغلتا حيّزاً من تفكيري، قبل أن يشغلا مكاناً على سطح مكتبي.

تلك القُصاصتين استنزفت معانيهما ودلالاتهما أغلبَ تفكيري وجلَّ وقتي، لأنَّهما احتلا الصَّدارة في أعمالي واهتماماتي، وعشت معهما مستلهمةً معانيهما، ومستشعرة أهميتهما ودلالاتهما وتأثيرهما في الحاضر ورسم معالم المستقبل على صعيد العلاقة مع الله ومع النَّفس ومع النَّاس، مستصحبة في ذلك كلّه قول الشَّاعر:

دَبَبْتَ لِلْمَجْدِ وَالسَّاعُونَ قَدْ بَلَغُوا   ***   جَهْدَ النُّفُوسِ وَأَلْقَوْا دُونَه الأُزُرَا

فَكَابَدُوا الْمَجْدَ حَتَّى مَلَّ أَكْثَرُهُمْ      ***    وَعَانَقَ الْمَجْدَ مَنْ أَوْفَى وَمَنْ صَبَرَا

فقد كنت أكابدُ في تحصيل هذا المجد، وأنا أعيش معتركاً بين مشاعر وأحاسيس تتجاذبني، تارة ما بين خشية من ((نيّة)) لا أستطيع الوقوف على مدى إخلاصها، وبين أملٍ أتطلّع فيه لبلوغ ((إحسان)) هو غاية الأمر والكمال في كلّ خير وعمل صالح، مع خجل من تقصير نراه ملازماً لأعمالنا وطبيعتنا البشرية، لكنّه النَّفس تأبى إلاَّ أن تحقّق نجاحاً وتميّزاً في دنيا نعيشها وفلاحاً وفوزاً في آخرة هي عاقبة أمرنا.

يزدادُ ذلك الأملُ والتوق إليه، عند قراءتي لسورة قرآنية، وكلّما قلّبت المصحف في تدبّر معانيها، سورة بدأت في وصفها بأحسن القصص، قال الله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ}. (يوسف: 3). ففي كل القصص القرآني عبرٌ وحكم وهدايات وإرشادات، يقول الطاهر بن عاشور في تفسيره ((التحرير والتنوير)): (إنَّ في تلك القصص لعبرًا جمَّة، وفوائد للأمَّة؛ ولذلك نرى القرآن يأخذ من كلّ قصة أشرف مواضيعها). وفي سورة يوسف تحديداً قصص الإحسان وروعة البيان وسحر التأثير، وهي سورة نزلت قصّتها كالبلسم والدواء، قال عطاء: ((لا يسمع سورة يوسف محزونٌ إلاّ استراح إليها)).

 وفي تفاصيل قصّة نبيّ الله يوسف عليه السَّلام في هذه السورة، نجد أنَّ الإحسان تلبَّس في كلّ أحداثها؛ حيث نجدُ هذا الإحسان مجسّداً في شخصه وملازماً له في كلّ ظروفه؛ في الصَّعب منها والمرَفَّهِ منها، فهو المحسن دائماً، فتجده على نفس الحال من الإحسان في سجنٍ، وكذلك هو عندما أصبح ملكاً على خزائن الأرض.

وكثيراً ما تناولتُ هذه السُّورة قارئة لتفسيرها، ومقدّمةً لها كمحاضرة للجمهور، في رجاء أن يكون تكرارها تذكيراً لي وللآخرين بهذا الإحسان التي دارت السّورة حوله، وتجسَّد في كل حركاته وسكناته عليه السَّلام، ولم يتخلَ عنه في كلّ المواقف، إحسان لاحظه جميع من تعامل معه، وكثيراً ما أثنوا عليه وجعلوه مقدّمة لطلبهم، وتمهيداً لإجابته لحاجتهم.

 لقد كان هذا الخُلق ملازماً له في جميع أحواله ومع مختلف عملائه، ومع من لم يذكر سوء إلاَّ وتعاملوا به معه، وعلى الرَّغم من ذلك كلّه لم تحد بوصلة أخلاقه عن خيريّتها.

وكثيراً ما ينتابني الحزن والألم، وأنا أرى المجتمعَ وهو يعاني في نسيجه خصومات أفسدته وقطّعت أوصاله لأسباب تافهة، إذا ما قورنت بما حصل ليوسف – عليه السَّلام – من مجتمعه خلال مراحل حياته بداية من سرد رؤياه على أبيه وانتهاءً بتحقيق تلك الرؤيا.

سورة من القرآن الكريم لو أحسن القارئ تدبّرها، وحرص على التمتّع بأخلاق أرشدت إليها، وتمثلها توجيهاتها مثلما تمتَّع بحسن قَصَصِها، لأمكنه الفوز بأكسير الحياة ((الإحسان))، الذي يحيلها طيّبة متآلفة، سعيدة متفاهمة، مترابطة يعضد بعضها بعضاً، ولظفر بقطف أعظم ثمراتها: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ}. (يونس:26)؛ إنَّه جزاءُ الإحسان بالإحسان وزيادة، قال الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: (إنَّ الله تبارك وتعالى وَعَد المحسنين من عباده على إحسانهم الحسنى، أن يجزيهم على طاعتهم إيّاه الجنة، وأن تبيّض وجوههم، ووعدهم مع الحسنى الزيادة عليها. ومن الزّيادة على إدخالهم الجنَّة أن يكرمهم بالنظر إليه، وأن يعطيهم غُرفاً من لآلئ، وأن يزيدَهم غفرانا ورضوانًا، كل ذلك من زيادات عطاء الله إيَّاهم على الحسنى التي جعلها الله لأهل جناته).

 

أعاودُ النَّظر في تفاصيل هذه القصاصة، لأتأمَّل قوله سبحانه: {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}. (القصص:77)؛ فتنكسر نفسي أمام هذا التَّعبير الإلهي من الله الخالق العظيم، وهو يأمرنا بجميل البيان ونحن العباد الضعفاء إليه، ويذكرنا بإحسانه ليكون لنا سبباً لسلوك هذا الإحسان في حياتنا، وكان يكفي رؤية ذلك واقعاً ملموساً فيمن وفّق له، ونهاية بآثاره ونتائجه من حسن تدبير للأمور في الحياة، وتعامل مع الأقدار ومواجهة مع العباد.

في هذه القُصاصة تذكيرٌ للزوم الإحسان في سبعة أمور وكيفية تحقيق هذا الإحسان، فالله سبحانه قد كتب الإحسان على كلّ شيءٍ؛ فعن شدَّاد بن أوس، رضي الله عنه قال: ((ثنتان حفظتها عن رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: إنَّ الله كتبَ الإحسانَ على كلّ شيء))[1].

  1. بداية من عباداتنا لخالقنا ووليّ نعمتنا والمحسن الدَّائم إلينا، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}. (العنكبوت: 69).
  2. ثمَّ تعهّد بالإحسان إلى النَّاس.
  3. وإلى الأصدقاء.
  4. وإلى النَّفس.
  5. وفي طلب العلم.
  6. وإلى الأقارب.
  7. وألزمهم بهذا الإحسان هما الوالدان، قال الله سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}. (النساء:36).

فلن يذهب أيُّ إحسانٍ سُدىً ولن يضيع أجره عند الله، ولا أثره وبركته في الناس أجمعين، وكان خطاب الله تعالى لنبيّه محمّد صلّى الله عليه وسلم {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}. (هود:115).

فكلّ إحسان يفعله العبد حتّى فيمن لا يستحقه، لا بدَّ أن يكافئه ربُّه عليه، كما جازى الله سبحانه يوسف عليه السَّلام: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}. (القصص:14).

 فسبحان من يأمر بالخير: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}. (النحل:90)، ثمَّ يجزل الثواب لمن ائتمر به: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}. (الأعراف:56)، وهو الذي دعا إلى أن نكون ضمن عباده المحسنين، لننعم ونسعد بهذه المعيّة: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}. (النحل:128)، ووعد بالأجر العظيم لمن كرّس الإحسان في حياته ومعاملته: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}. (البقرة:112).

إنّها درجةُ الإحسان التي أخبرنا الرّسول صلّى الله عليه وسلّم عن تفاصيلها وبيانها ووسائل الوصول إليها: ((الإحسان أن تعبدَ الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك))[2]، قال الإمام النووي، رحمه الله: (وهذا القدر من الحديث أصلٌ عظيم من أصول الدّين، وقاعدة مهمَّة من قواعد المسلمين، وهو عمدة الصّديقين، وبغية السَّالكين، وكنز العارفين، ودأب الصَّالحين).

وإنَّه الخلقٌ الذي يجعل جميع النَّاس ممتنين لك، محبّين مأسورين بجميل إحسانك لهم، فالإحسان هو أقصر الطرق إلى قلوب الناس، كما قال الشَّاعر[3]:

أحْسِنْ إلى النَّاس تَستعبدْ قُلوبَهم     ***     فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ

وإنَّه العطاءُ لمن كانت طريقته الإحسان، بأن يُحسن الله جزاءَه، ويكتب لها فيها أعلى الدَّرجات وأسمى المقامات، وإنَّه أعلى مقامات الرِّفعة الإنسانية والمفتاح السّحري لكل أزماتها وجسر سعادتها، وإنَّه أسمى هدفٍ تصبو إليه نفوسُ العابدين، حيث هو طريق الوصول لمحبَّة الله ومعيَّته ورحمته.

من وُفّق له ارتقى إلى أعلى المراتب؛ مقام المشاهدة ((كأنَّك تراه)) وأعلاها مقام المراقبة واستحضار ((فإنَّه يراك))، فما أعظمه من دين حبانا الله به، دعا إلى الحسن في كل أمر بداية من نية عظمت بإخلاصها لله وحده وقولٌ بأن يقول أحسنه وجعل محبته جائزة المحسنين: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. (البقرة:195).

 مقاماتٌ نُمنّي النَّفس بلوغَها، ويحدونا حسنُ ظنٍّ بربّنا سبحانه، ورحمةٌ كتبها على نفسه: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}. (الأنعام:54). نسأله بفضله وكرمه أن ننالها؛ فهو القادرُ العزيزُ، وهو الرَّحمنُ الرَّحيمُ، ومن كان بعباده رؤوفاً رحيماً.

إلهي إذا ما عشتُ في الأرضِ مُحسناً    ***    فليس بفَيْضِ من ذكائي ولا فَضْلِي

                فأنت الَّذي يسَّرتني وهديتني   ***     إلى الخير والإحسان يا واسعَ البَذلِ

[1]  أخرجه ابن حبّان في صحيحه.

[2]  رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.

[3]  هو الشاعر أبو الفتح البُستي، اشتهر بقصيدته التي تُعرف بـ:(عنوان الحِكم)، أو (نونية البُستي)، وهذا البيت منها، ومطلع القصيدة:

زيادةُ المرء في دنياه نقصانُ                     وربحه غير محض الخير خسرانُ

النشرة البريدية

اشترك فى النشرة البريدية لمعرفة كل جيد عن الدكتورة نورة