مُحتوى القُصَاصَة

 

ذكرتك يالغلا كلّه بعدما شفت بنت الخيل                                         خصوص عقب ما مرَّت بعد لفَّه وتجفيله

تشابهك بقليل الوصف والباقي بلا تمثيل                                      جمال فيك يصعب للَّذي يوصفك تمثيله

غزال أنتي أو أنتي ريم واللانتي المطر والسّيل                                      أو إنتي فرحة إلي من عنا وقته سهر ليلَه

   أو انتي أم للطفل الحزين إيلا ضواه اللّيل                                       يبي منها الحنان أو وده تسولف وتحكي لَه

أو أنتي يا ملاك الحسن في عيني لك التفضيل                            وأشوفك عن جميع البيض لك ميزه وتفضيلَه

أو أنتي شخص عادي كنك الباقين بالتنفيل                                         رغم كل الجمال الي تبديتي بتحصيلَه

أو أنتي ويش أنتي ما عرفت أوصفك بالتفصيل                           يا غير أنك خذيتي من جمال الكون تشكيلَه

ألا يا كبر حض منك الي يشوفك يا مها بالخيل                                وراعي الحض منّك واعنّا قلبه وعزي لَه

تبسم له زمانه لابتسمتي والزَّمن بخيل                                            ويلاغبتي شكا للنَّاس من زايد غرابيلَه

 

 

قِصَّة القُصَاصَة

جميلةٌ تلك الكلمات الأنيقة الصَّادقة التي تنطق بها الألسن معبِّرة عن مكنوناتِ القلوب، والأجملُ من ذلك كلّه، بثُّها في ألطف وأصدق وأعذب تعابيرها.

قُصَاصَةٌ ثُبّتَتْ على سطح ذلك المكتب، قُصَّت بعناية، وبدت مأخوذة من إحدى الصُّحف التي تتداولها العائلة يومياً، ولعلَّ صاحبها وَجَدَ فيما احتوته، تعبيراً عمَّا يريدُ البوحَ به، ورآه الطريقَ الأسهلَ في توصيل مشاعره.

المشهد نفسُه يتكرَّر في ذلك اللّقاء العائلي، الذي تجمَّعت فيه الأسرة لاستقبال شخصه الغالي، عند عودته من سفرٍ طويلٍ غاب فيه عنهم، فيخرج من جَيْبِه قُصَاصَةً، ويسلّمها لشريكة عمره، والتي يبدو عليها بأنَّها قُصَاصَة من جريدةٍ قرأها في رحلته الجوية، ووَجَدَ فيها ما يحاكي أشواقَه إليها، والذي أبطأ التفاف العائلة في بثّها والتعبير عنها.

ولأنَّها البيئةُ نفسُها والمجتمع ذاتُه، فلا عجبَ في تَكرار هذا الأسلوب، تعبيراً وبوحاً، كنتاجِ لبيئاتٍ عاشوها، وثقافة نهلوا من مَعينها، ومهارة في التَّعبير الشَّفهي لم يكتسبوها، أو لعلّها كلّ ذلك.

أضف إلى ذلك تربية تعلّموا خلالها أنَّ المشاعرَ والبوحَ بها ضَعْفٌ لابدَّ من تجنُّبِه، خاصةً هذا النَّوع منها، فوجدوا في تلك القُصَاصات ضالَّتهم.

وعلى الرَّغم من علمٍ حظوا به، وحياة متمدّنة يعيشون مادياتها، إلاَّ أنَّ الأفكارَ المجتمعية قد بسطت نفوذها في إرث صِيغَ به فكرُ أفرادِها، وتربَّت عليه أكثرُ البيوت، وحسبته تحفّظاً محموداً، وليس مشاعرَ مكبوتة لم يمهَّد لها الطَّريق، ولم تجد السَّبيلَ لتبثّ محرّكة القلوب على وقع ترانيم حُسنِها وجمالِ معانيها، -وقد يلُحظ أثرٌ من ذلك في تطرّق كاتبة السّطور له وهي تتناوله على استحياء وحذر في صياغته -.

إنَّ محاولاتِ الإنسان الحثيثة في التَّعبير عن مشاعره وتطرّقه لأساليب شتّى في توصيلها، يعدُّ انتصاراً على حياة اجتماعية قاست منها النَّفس البشرية، لأنَّها كانت تَعُدُّ ذلك ضعفاً وانكساراً، وترى فيه لطفاً لا تستحسنه، وخاصةً في جنس الرِّجال.

وهو ما نرى أثرَه في التَّراجع الملحوظ الذي عمَّ كثيراً من أصعدة الحياة ومناحيها في جزيرة العرب، وجفَّف ينابيع إبداعها، وهي التي زخرت عبرَ تاريخها الطويل بقصص وأشعار تحمل كلَّ المشاعر الإنسانية، وتزيد من روعتها مفرداتٌ تزاحم بها قاموس لغتهم العربية، أبدعت وجادت بها قريحتُهم ومكنوناتُ قلوبهم، لتملأ فضاءَها ورحابَها بكلّ ما هو جَميلٌ وبَديعٌ ومُؤنس.

فمن عصر الجاهلية، وأبيات شعر عنترة بن شدّاد[1]، حيث تسير بها الرّكبان وتنقلها إلى الأمصار والأقطار، لتشدوا بها وتردّدها الأعراب، وحتّى في عهد النبوَّة، لم يعب عليه الصَّلاة والسَّلام على منْ بَثَّ مشاعره وصاغها في قوالبها المهذَّبة التي تأنس وتطرب لها الأسماع، ويتحرَّك  لبيانها وتأثيرها الوجدان؛ فها هو صلَّى الله عليه وسلَّم يخلع بردته الشَّريفة ويكسي بها كعبَ بن زهير[2]، عندما استحسن قصيدته، والتي بدأها باثّاً مشاعره فيها، ليضفي بها لطفاً على طلبه، عندما جاءَه معتذراً، وقد كان صلّى الله عليه وسلّم، قد أهدر دمَه، فيقول:

                                    بَانَتْ سُعَادٌ فَقَلْبِي اليومَ مَتْبُولُ                       مُتَيَّمٌ إِثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ

وهذا عليُّ بنُ أبي طالبٍ، كرَّم الله وَجْهَه، تجودُ قريحتُه معبِّرةً عن أرقّ المشاعر وأعذبها لزوجته فاطمة الزَّهراء، رضي الله عنها، فيشدو:

                                         حَظِيتَ يا عُودَ الأَرَاكِ بِثَغْرِهَا             أَمَا خِفْتَ يَا عُودَ الأَراكِ أَرَاكَا؟

                                         لوكنتَ مِنْ أهْلِ القِتَالِ قَتَلْتُكَ           مَا فَازَ مِنّي يَا سِوَاكُ سِوَاكَا!

ومن أمثلة عصرنا الحاضر، ما تقرأه في كتابات كثيرٍ من الكتَّاب والأدباء، وتجدها سهلة يسيرة على ألسنتهم، لا تستنكر من مجتمعاتهم كبلاد الشَّام والرَّافدين، وممَّا لا شكَّ فيه أنّها تخفّف جزءاً من أحمالهم، وتلطف من أعباء حياة يعيشونها؛ من أمثلة ذلك كتاب: ((حديث الصَّباح))، للأستاذ أدهم الشَّرقاوي، فهو عامرٌ بالتَّعبير عن مشاعر كتبها بقلمه، وأنطق بها كلّ ما حوله ليشاركوه خلجات نفسه، كما في مقاله الرَّائع ((صباحك سُكّر)).

وهكذا تتعاقب الأزمنة، ويتنوَّع التعبيرُ، وما قُصَاصَتُنا هذه وأُخَرُ إلاَّ إحدى الصُّور المعبّرة عن ذلك المعنى الجميل، الذي وُجِدَ كمتنفَّسٍ للبوح والتعبير، وقد أحدث الأثر فيمن تلقاها، فلم تخطئ طريقها إلى القلوب لتتمكّن منه، فهي القلوب المفعمة بالحبّ حين تتعدّى دورها من ضخّ دماء للجسم إلى ضخّ مشاعر لمن حولها في كلمات ينتقي منها الأحسن في لفظها، عملاً بتوجيه الخالق سبحانه: {قُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. (الإسراء: 53). وأسوة بقدوتنا محمَّد صلّى الله عليه وسلّم الذي كان يتخيّر أطايب الكلام وأحسنه في أبهى حلّة وأجمل صورة؛ وهو الذي أوتي جوامع الكلم المعبّرة والهادية، وهو الذي أخبرنا كيف ننشر الخير ونسعى به في بيوتنا وبين أهلينا ((خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ …))[3]. قال صاحبُ كتاب “تحفة الأحوذي في شرح سنن الترمذي” في شرحه لهذا الحديث: “أي: لعياله، وذوي رحمه، وقيل لأزواجه وأقاربه، وذلك لدلالته على حُسْنِ الخُلق، “وأنا خيرُكم لأهلي”، فأنا خيركم مطلقاً، وكان أحسن الناس عشرة لهم، وكان على خُلُقٍ عَظِيم”.

ولنا في خيرِ الاقتداء بهذه المعاني في سيرة الخلفاء الرّاشدين، رضوان الله عليهم، فها هو الفاروق عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الذي قال: “لولا ثلاث ما أحببت البقاء في الدنيا”، وذكر منها: ” أن “أجلس في مجالس مع أخوةٍ لي في الله ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر”.

إنَّه حبُّ العطاء وجميلُ التأثير وعميقُ التواصل، عندما يتألّق في إنسانٍ ويتجلّى في تعاملات تنطوي على أجمل المشاعر، ليظفر بها أهله ومحيطه الأقرب، وليكون أكسجينَ حياة لمن حوله ووقودَ تجديدٍ لمشاعر تنبض بالحياة، نابعة من أرواح مهذَّبة وأخلاق مرضيَّة، هي في الأصل والأثر والعمل بصماتٌ باقيةٌ، الموفّق مَنْ تَحَيَّنَ فرصَها وفاز وظفر بها؛ فهي الإرثُ الأخلاقي المشاعري الذي لا يقدَّرُ بثمن، هو كسبُ القلوب والتربّع في سويدائها، هي الكلمة الطيِّبة، التي أصلُها ثابتٌ في الأرض وفرعُها في السَّماء، هو سرورُ القلوب هنا، يملأ الوجود بالهناء والسَّعادة، وأجورٌ بلا حدود هناك، حيث مدارجُ الصُّعود على منابر من نور يغبطهم عليها النبيُّون والشُّهداء.

فهنيئاً لمن وفّق وأجاد التَّعبير، وبثّ مشاعر الخير والحبّ والتآلف، لتملأ الكون حوله بأنوارها وضيائها ودفئها، وكان ديدنُه في سيرته ومسيرته عطاءً وفي عمله وبصمته وتأثيره إحساناً، فهو النَّعيمُ المعجَّل لأخرى فيها مالا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خَطَرَ على قلبِ بشر[4]، واهبُها هو اللهُ الكريمُ، من يُوفِّق للخيرِ ويَجْزِي بِهِ سُبحَانه.

[1]  هو عنترة بن شداد بن قراد العبسي، أحد أشهر شعراء العرب في فترة ما قبل الإسلام، اشتهر بشعر الفروسية، وشاعر المعلقات، والمعروف بشعره الجميل وغزله العفيف.

 هو كعب بن زهير بن أبي سلمى، المزني، أبو المضرَّب، شاعر مخضرم، من أشهر قصائده قصيدة البردة، التي مطلعها: (بانت سعاد).[2]

 رواه الترمذي وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها.[3]

[4]  جزءٌ من حديث قدسيّ، رواه البخاري ومسلم، ولفظه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)).

النشرة البريدية

اشترك فى النشرة البريدية لمعرفة كل جيد عن الدكتورة نورة