مُحتوى القُصَاصَة

تحدّثي عن مَرَضِ “الزَّهَايْمر”، لأنَّ “الزَّهَايْمر” مرضٌ خطير جدّاً، ولأنَّ هذا المرض السبب الأساسي فيه هو عدمُ الصَّلاة وعدمُ حفظ القرآن، فعليك بحفظ القرآنِ، لأنَّ القرآن سوف يأتي وقتٌ وربّي سبحانه سوف يحفظ عندما تَبْيَّض الصُّحف، فلذلك يجب تذكير النَّاس بذلك، لأنَّه لا يوجدُ غيرُ الله.

قِصَّة القُصَاصَة

في إحدى أيَّام رمضان المبارك 1436 هـ أو 1437 هـ، وقبل أذان المغرب بدقائق، كانت صاحبة القصاصة، ابنةَ البلدِ والحَسَبِ والنَّسب إحدى الزَّائرات في هذا الوقت الذي خصَّصته لاستقبال ضيوفي، وغالباً ما يكونوا من أخواتنا المقيمات، ومن أسعدُ بالتفافهم معنا على مائدة الإفطار، حيث نجتمع على الطَّعام والدُّعاء، رجاء وطلب الثَّواب بإكرام ضيفٍ وإفطار صائمٍ وإدخال سرورٍ تراه على محياهم ونظرات أعينهم وتعابير كلامهم.

لقد تفاجأت بدخولها  – فلم أتعوَّد على دخول من أخواتنا القطريات بدون دعوة أو موعد- مندفعة تنادي باسمي بصوت عالٍ ؛ حيث أطَّلت صبيَّة في العقد الثالث من عمرها ، قد أحسن الله خَلْقَها من جمال وجه وصفاء لون وكمال هيئة، شاركتنا الدّعاء والإفطار، وبادرت بالكلام دونَ انتظار، بعد أن تعرَّفنا عليها، وعرضت موضوعها في رغبة منها ببيع بيتها، وآثرت أن نشتريه لجعله مركزاً للقرآن الكريم وتعليمه في المنطقة التي يوجد فيها، كانت تتكلَّم وتتنقَّل من موضوع إلى آخر دونَ تركيز، تعرّضت لأهلها وأقربائها وقبيلتها وذكرتهم على نحو مختلف عمَّا أعرفه عنهم ولم تعفِ أختها من ذلك، والتي عرفتها بكلّ خير ، خلوقة ، مؤمنة – لا نزكّيها على الله – مداومة على حضور مجالس الذّكر في مركز الحنزاب لتعليم القرآن الكريم .

وقد عرفت أخوات من قبيلتها سيّدات ذوات خُلُقٍ ودينٍ وحبٍّ للخير ومساهمة فيه، كل ذلك نَسَفَتْهُ في حديثها، وضربت به عرض الحائط، ممَّا جعلني في حيرةٍ وأنا أسمعها!

تكلَّمت كثيراً عن تعنيفٍ مجتمعيٍّ عانت منه، بدءاً من الأهل، وكانت نتيجته نفسيَّة محطَّمة، ليس لديها ما تطمح له فضلاً عن أيّ شيء تخسره، لقد بدت زاهدة في الأهل والقُربى وحتّى الوَطَن، ممَّا حدا بها إلى السَّعيّ لبيع ممتلكاتها لتغادر إلى بلد مجاورة.

استمعتُ إليها وأنصّتُ باهتمام إلى كلّ حديثها، حتَّى فَضْفَضَتْ بكلِّ ما تريد، ثمَّ طلبت تلك الصبيّة ورقة، لتكتبَ فيها هي هذه “القُصَاصَة”، وفور الانتهاء منها سلَّمتها ثمَّ انصرفت.

قرأتها لاحقاً، وكم كانت دَهْشَتي بالغةً عندما تمعَّنت في محتواها، هل هذه … من تلك؟؟

هل منْ كانت شاكيةً باكيةً من ظلم الأهل والعشيرة والمجتمع تحملُ هذا الهمّ للبشرية، هل هذه الشَّابة التي كانت (على نحو ما ذكرت) من القريب قبل البعيد تحمل هَمَّ ذلك المريض وألمَ ذلك العاصي، ومعاناة ذلك المحروم؟!

قُصَاصَةٌ قرأتها مرَّاتٍ وأكرّرُ قراءتها، وكأنَّي أقرأ موعظة لداعية حملت همومَ الأمَّة، وسعت بالدَّعوة إلى الله سبحانه، لتنهل البشرية من خير وسعادة بالتزامها بدينها من صلاة وتلاوة قرآن.

عَاتبتُ نفسي من تكوين فكرة عن إنسانة بنيت على دقائق، لا يعلم إلاَّ الله نفسيَّة لصاحبتها كانت تفترسها، ومعاناة تحملها، ننسى أنَّ للبشر قلوباً لا تخلو من سعيها لمصلحة لها في دنياها وآخرتها، وهي تصارع نفساً مثل الرّحى تدور فلتقي ما يوضع فيها ” لأنَّه لا يوجدُ غيرُ الله ” جملة عظيمة يهتزّ لها الكون، ويقشعر لها البدن، اختتمت بها قصاصتها وقد أصابه في معرفة هذه الحقيقة، والتي هي أصلُ الحقائق جميعاً، فهو الأوَّل الذي لا شيء قبله، نقصده في كل أمورنا، وهو الآخر الَّذي لا شيء بعده منتهي إليه كلُّ أمرنا.

لقد كانت قُصاصتها تحمل من الصِّدق والرّفق واللّين والإشفاق ما يجعل كلمات بسيطة دوَّنتها تخترق من معانيها العظيمة الصدور لتستقرّ في القلوب.

لقد حملت القصاصة بين كلماتها نفسية فقدت الثقة بنفسها وقدرتها على أداء مهام حسبتها حصراً بدعاة دين أو آخرين غيرها واستثنت من هذه المهمة شخصها ، وهي من حمل هذا الهم اتجاه الآخرين ، حيث بدى في القصاصة اهتمامها بأشخاص يعانون من مرض ازداد انتشاره في المجتمع (الزهايمر)، والذي عرفنا بإصابة أحد أفراد عائلتها به، لقد أدركت خطورته، فأرادت نفع النَّاس بما تعتقد أنَّه الملاذُ للحماية من هذا المرض، لقد امتلأ قلبُها رحمةً لهم، من شفاء يدركونه بإرادتهم فوجَّهتهم إلى القرآن والصَّلاة، ليأخذوا بأسباب سعادتهم ونجاتهم، وصدق الله في كتابه الكريم: (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا* إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ}.  (سورة المعارج:19-22). ففي تلاوة القرآن وتدبّره والعمل به شفاء لما في الصدور من ضيق وحزن وحرج وألم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}. (يونس: 57). وقد أرشدنا النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عند اشتداد الهموم والأحزان أن نلجأ إلى الصَّلاة، فعن حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه، قال: ((كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إذا حَزَبَه[1] أمرٌ صَلَّى))[2]. وعن أنس بن مالك، رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((وجُعِلت قرَّة عيني في الصَّلاة))[3].

إنَّها وإن كانت لم تحقق لنفسها الأمن والطمأنينة في مجتمعها إلاَّ إنها أرادته لهم، تبحث من سعادة لهم تجدها ولعلها في إرشاد الناس تجد السبيل إلى ذلك.

أرادت حماية مجتمعها والمساهمة ولو بكلمة وبيان خطورة ذلك، على الرَّغم ممّا تعيشه من نفسيَّة مهشَّمة وروح محطّمة، حيث لم تجد في نفسها الكفاءة للقيام بهذا الدَّور، فأرادت الاستعانة بآخرين لتوصيل ذلك، ويكون لها في ذلك قَصَبُ السَّبْق في رفع راية للخير والدَّعوة إليه والتحفيز إلى ميادينه، وإنَّه لعَمْرِي عملُ الأنبياء والمرسلين وتوجيه الدّعاة والصَّالحين في كلّ وقت وعصر، استناداً إلى توجيه خاتم النبيّين محمّد صلّى الله عليه وسلّم: ((إنْ قامت السَّاعة وفي يدِ أحدكم فسيلة، فإنْ استطاع ألاَّ تَقوم حتى يَغرِسَها، فليَغرِسْها))[4].

إنَّها رحمةٌ تعاملت بها مع مجتمعها مقابل تجاهل منه لحاجة النَّفس البشرية للاحتواء والتكريم وجهل بدين جعل الكرامة لآدميَّته دون النظر لانتمائه {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}. (الإسراء:19).

إنَّ ممَّا تختلّ به موازين الأسر اليوم، هو عدم احتواء أفرادها واحتضانهم بالرّعاية والحبّ والتَّفاهم، وحمايتهم من غواية البشر وإغراءاته، ومن بيئة مجتمع قد تكون محضناً تنشأ وتنمو فيه الأفكار المريضة، فتنتج نفسيّات مضطربة تقوّض أنسها وسكينتها وطمأنينتها.

ولكي يسود الخيرُ في هذه الحياة بين الأسرة والمجتمع، لا بدَّ من سلام نفسي دائم ورعاية متكاملة الأطراف والأهداف، وتناغم بين أفراده، وعلى النَّقيض من ذلك كلّه، تظلم آفاق الإنسان وتتسلّل إلى قلبه الأحزان، وتسود داخله وساوس الشيطان وغواية البشر، ويصبح يعيش في دائرة ضيّقة مغلقة الأركان، يفقد خلالها الأمل في الحياة، ومعرَّض حينها لكل أنواع اليأس والحيرة والضَّياع.

لقد فقدت صاحبتنا أمنها النَّفسي، فكان ذلك سبباً لفقدها وجودها في الحياة، في معركة كانت فيها ضحيّة وفريسة سائغة لصراع انهزمت أمامَه، ضاقت بها السُّبل، فاختارت الأسوأ منه.

قُصَاصَةٌ أبكتني ولا تزال على ما حَوَتُه من خيرٍ دَفين ورِكازٍ ثمين، كشف محتوى لقلبها الجميل ومشاعر أجمل كان يحملها ذلك القلب بين جوانحه.

قُصَاصَة بدَّدَت عندي كلَّ نظرة عاجلة نتعامل بها مع الآخرين، فنحكم عليهم من خلال لقاءٍ عاجلٍ عابرٍ، لنسجّل فيه حكماً غيرَ عادلٍ وتصنيفاً ظالماً حين يحتكر الخير في زاوية من زوايا النّاس أو عمل من أعمالهم، بينما هو موجودٌ في الأمَّة إلى يوم الدِّين، فعن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: قال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ))[5].

وقد أحزنني خبرُ وفاتها، والطريقة المأسوية التي انتهت بها حياتها ((حَرْقاً))، والذي لا يعفي الأهل والمجتمع في تحمّل جزء كبير منه في توفير الأمن النَّفسي لأفراده قبل أمنه الجسدي، لقد كان هذا المجتمع والأهل همّها، ولم تكن يوماً همّاً له.

رحمها الله وغَفَر لها وتقبَّلها في الصَّالحين، وأعلى درجاتها في عِلّيّين، وجَعَلَ قُصاصةً خَطّها قلبُها المؤمنُ قبلَ أناملِها المُبْدِعة، داعيةً إلى عبادته ومدركة عظمته، وأنَّه (الواحدُ الأحدُ الفردُ الصَّمدُ) شفيعاً لها يومَ تلقى ربَّها وهو راضٍ عنها، إنَّه سميعٌ مجيبُ الدُّعاء.

هَمْسَةٌ:

هي النيَّة الخَالِصَة والصَّادقة – ولا نزكّي على اللهِ أحداً – التي جعلت هذه القُصَاصَةَ تُحفظ شاهدةً على فطرتها وإيمانها، وصدق عبارتها ووحدانيَّة رّبها، فاللَّهُمَّ رجِّحْ حسناتِها، وثقّل موازينَها، وثبِّت حُجَّتها، فإنَّا على قولها لشَاهِدُون.

(لا يُوجدُ غيرُ الله)

[1]  حَزَبَه: أَهَمَّه.

[2]  رواه أبو داود وحسنَّه الألباني.

[3]  رواه أحمد والنسائي وصحَّحه الألباني.

[4]  رواه الإمام أحمد في مسنده والبخاري في الأدب المفرد، عن أنس رضي الله عنه.

[5]  رواه الترمذي في سننه عن أنس رضي الله عنه.

النشرة البريدية

اشترك فى النشرة البريدية لمعرفة كل جيد عن الدكتورة نورة