مُحتوى القُصَاصَة

في صندوقٍ حديديّ، وبين أرضِه وسمائِه، إذا بنداءٍ يُعلن وقفَ المشروبات الرّوحية، تبعاً لقوانين البلد التي نقصدها، في طريق رحلتنا إلى بلدة أخرى، فإذا بالنَّفس تُردِّد متألمّة متحسّرة مسبّحة لله تعالى، كيف أنَّ أمَّة الحديد، (وهي في صندوق من مادته)، تخنع وتذعن لقوانين بشريَّة، وتضرب بعَرْض الحائطِ قوانينَ إلهيَّة، وتؤكّد ما لدَّي من علمٍ، كيف قلَّ إجلالُنا لله وأحكامِه، فقلَّل سبحانَه إجلالَنا عند أعدائنا، (فاللهمَّ لا َتكِلْنَا إلى أنْفُسِنَا طَرْفَةَ عَيْنٍ).

قِصَّة القُصَاصَة

إنَّها القُصَاصَةُ الأولى في هذا الكتاب، الَّتي أكتبُها وأروي قِصَّتها، فهي لم تُستلم من قريب محبّ أو صديق ناقد، بل اشتركت مع من ذكروا، بأنَّها نتيجة مشاعر خطرت ونفسٍ تأثَّرت، فكانت هي هذه القُصَاصَة، كُتبت في رحلة جويَّة، منذ تسعينيَّات القرن الماضي (تقريباً صيف 1998م)، وأنا وبعدَ عشرات السنوات، أحاول لملمت أفكاري وجمع وترتيب قُصَاصَاتي لإصدار هذا الكتاب.

راودني هذا السُّؤال: لماذا أحتفظُ بهذه القُصَاصَات، فأصلُ إلى قناعة أنَّها ” المشاعر ” عندما تُستثار، فلا تجدُ لها مُتنفَّساً سوى اتخاذِ القلمِ سلاحاً، والفكرةِ وَقُوداً والورقةِ ساحةَ حربٍ، تحاولُ الانتصارَ فيها، وإنْ كانت هذه المعركة أحاديَّة القطب لا طرفَ آخر لها.

إنَّها معركةُ الكتابة، ذلك البوحُ الصَّامت والمشاعر الدَّفينة لفرحٍ أو أملٍ لا صوتَ له، وإن كانت النفسُ على يقينٍ بكتمان السرِّ، إلاَّ أنَّ هاجساً يراودها لعلّه يأتي يوماً مَن يطّلع عليه، لأنَّ الحقيقة أنَّه لن يكتم سرّاً أثبت وجوده حِبْراً.

أمَّا لماذا أكتبُ قصاصتي ؟! فعسى أن تكون فيها رسائل أريدُ توصيلها إلى القارئ الكريم، لعلَّها تكون مفتاحاً لخيرٍ حواه قلبه، فينفع به مجتمعه، أو مشاعرَ حبٍّ وتواصل يتداركها، فيبثّها لكسب قلوب من حوله، أو يعجّل استشعار أو امتنان لنعمة تكون مبعثاً لعطاء يذوق لذَّتها عاملاً بها، وينال ثوابها عند لقاء ربّه، سائلة الله سبحانه العليم ألاّ يكون غير ذلك!

لقد كتبتُ قصاصتي هذه على بطاقة تُسلّم عادةً للمسافرين على متن الرَّحلات الجوية لتدوين معلوماتهم الشخصية عليها، إلاَّ إنَّني أمسكت قلمي مدوّنةً عليها مشاعرَ حزنٍ وأسىً على هوان وضعف ما تعيشه أمَّتنا العظيمة اليوم، خير أمَّة أخرجت للنَّاس، {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}. (آل عمران:110).

إنَّها أمَّة العطايا الرَّبانيَّة، من دينٍ عظيم يُعنى بالإنسان ويرتقي به، وعلمٍ حثّهم عليه، وكَوْنٍ سخَّره لمنافعهم، إلاَّ أنَّهم تراجعوا ليصبحوا في مؤخرة الأمم قيادةً وأكثرهم أميَّةً وبطالةً، وأقلّهم إنتاجاً وأكثرهم للآخرين اتّباعاً وانقياداً، وهو ما شهدناه على متن هذه الرّحلة، عندما أعلن كابتن الطائرة ضرورة التوقّف عن احتساء المشروبات الكحولية، لأنَّ نظامَ البلد التي نقصدها لا تسمح بمرور المخمورين من منافذها! انصاتاً لقوانين بشرية وهم لساعات طويلة كانوا يقدّمونه معرضين عن أوامره الإلهية، وهو سبحانه من يملك أمرَهم وفلاحَهم في الدُّنيا والآخرة، يَمتنُّ عليهم بالنّعم ويتجرّؤون عليه بالمعاصي، وقد أمدَّهم بأسباب القوَّة المعنوية بإخلاص العبودية له سبحانه، وأنَّه (لا إلهَ إلاَّ الله) والقوَّة المادية، فقال سبحانه: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}. (الحديد:25).

يحمِلُهم في فَلَكِه ويَعْصُونَه بين أرضه وسمائه، تفسح الأماكن Lunge لاحتساء الخمور المحرّمة، ويمنع على ظهرها الصَّلاة المفروضة، {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}. (العنكوت:45).  وكمْ وَدِدْتُ لو كان هذا Lunge قد خصّص لها.

خدمات متميّزة كثيراً ما تغنّوا بها، حين يكون الإنسانُ المسلمُ على مَتْنِها، ومن المفارقات العجيبة التي وجدناها عندما وصلنا رحلتنا إلى وجهتنا الأخيرة، وكانت على خطوط جوية أجنبية غير إسلامية، تلك الخدمة المتميّزة على متنها؛ لا خمور فيها، وهناك مكانٌ للعب الأطفال، وخدمات العناية بالجسم، وضيافة ممزوجة بلطف التقديم.

 مجالاتٌ كثيرة هي التي من الممكن أن تتميَّز بها خطوطنا الجوية، وفخرٌ كان من الممكن أن تتزيّن هي به، ونتغنّى نحن به، لو كان يعكس خدمات ضيافة تعلَّمناها من ديننا الحنيف وشريعتنا الغرّاء، ولكنَّ الحقيقة التي نؤمن بها وننتظرها دوماً ونتطّلع إليها هي؛ وإنْ كان الباطل أقوى في جولة، فللحقّ صولة، وهو أدومُ وأبقى. {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}. (طه: 132).

وإنَّه سيأتي اليوم الذي تدرك فيه هذه الأمَّة، أنَّه لن يتقدَّم وطنٌ ولن يصنع فيه مستقبلٌ مجيدٌ ناصعٌ لمن فقدوا التَّخطيط النَّابع من عقيدةٍ راسخةٍ وشريعةٍ هاديةٍ وخلقٍ مَتينٍ، وباتوا يحاكون مجتمعاتٍ لا تؤمنُ بدين ولا تحرصُ على أخلاق.

إنَّ الآمال معقودة على أجيال تقود وتسود، ونتطّلع لعزٍّ ومجدٍ مرتقب، زادهم إيماناً بربّهم وثقة بوعده الحقّ لعباده المؤمنين: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}.   (الأنبياء:105).  قال ابنُ عبَّاس، رضي الله عنه:”أخبر سبحانه في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السماوات والأرض، أن يورث أمَّة محمَّد صلّى الله عليه وسلّم الأرض، ويُدخلهم الجنَّة، وهم الصَّالحون”.

النشرة البريدية

اشترك فى النشرة البريدية لمعرفة كل جيد عن الدكتورة نورة