مُحتوى القُصَاصَة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

تَحيَّة معطّرة بروائح الورود والأزهار، كيفَ الحالُ والأحوال، لقد اشتقت لكِ جدّاً جدّاً، ولقد تعلَّقت بكِ جدّاً، يا ذاتَ القلبِ الحنون.

حبيبتي وغاليتي:

الدكتورة نورة آل حنزاب، ونعم وسَبْعَة أنْعَام بكِ وبأهلِك.

سوفَ أفاجئك شيء لن يخطر لك على بال، وعسى ألا نفترق، وإذا ذهبت إلى نجران، فتذكري الفتاة التي أحبَّتك من كلِّ قَلْبِها.

(………………………..)

قِصَّة القُصَاصَة

فتاةٌ صَبِيَّة لم تتجاوز عددَ مرَّاتِ رؤيتي لها أصابعَ اليَدِ الوَاحدة، تُفاجِئُني ببطاقة، هي هذه ((القُصَاصَة))، وتَذكرُ فيها بأنَّها ستفاجئني بشيءٍ لم يخطر لي على بالٍ، وقد كانَ ذاك.

لقد فاجأتني بما حملته من مشاعرَ عفويَّة في شوقِ لقاءٍ وحبٍّ من الأعماق، تفاجأت قبلَ وصول مفاجئتها، كلماتٌ بسيطة في لفظها، عميقة في معناها، حرَّكت كلَّ مشاعر الحبّ والعطف والرَّحمة، والامتنان والانكسار لمن بيدِه هذا الأمر كلّه، من يملك القلوب سكونها وتقلبّها، ((إنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِن أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ، ثُمَّ قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: ((اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ القُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا علَى طَاعَتِكَ))[1]. ويملكُ تلك الأرواحَ حين تتآلف وتتحابّ في جلاله: ((الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف..))[2]. قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث: (قال العلماء: وأمَّا تعارفها فهو لأمرٍ جعلها الله عليه. وقيل: إنها موافقة صفاتها التي جعلها الله عليها وتناسبها في شيمها).

كان ذلك أثر كلماتٍ دارت بيني وبينها، مرحّبة بها ومشجّعة لها على تعلّم كتاب الله، وكان اللّقاء في مركز آل حنزاب لتعليم القرآن الكريم وعلومه، حضرتْ إليه رغبة في تعلّم كتاب الله في تلك الفترة الوجيزة التي ستكون خلالها عند أقاربها زائرة لهم في بلادنا.

لم تكتف بالتَّعبير عن حبّها العميق بالبطاقة، بل أعقبه حديثٌ عن هذا اللّقاء عند أهلها، دفعهم لإجراء مكالمة هاتفية، شاكرين ما أحدثه هذا اللّقاء وما أدخله من فرحٍ وسعادةٍ على ابنتهم، مُبدينَ امتنانَهم وعجزهم عن الشُّكر، لما وجدوه من تأثير إيجابي، خفَّف معاناة نفسية كانت تعاني منها.

“قُصَاصَة” جعلتني أتأمَّلُ كثيراً فيما قُدِّم، وما نَتَجَ عنه من أثرٍ جميلٍ، وبجهدٍ بسيطٍ ووقتٍ وجيزٍ، تأمَّلت فرصَ المكاسب، وكيف نغفل عنها ونزهد فيها؛ وهي تجارتنا الرَّابحة مع الله في الدُّنيا والآخرة، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}. (إبراهيم:24-25). وقال صلَّى الله عليه وسلّم: ((إنَّ الرَّجل لَيتكلَّمُ بالكلمة من رضوان الله ما كان يظنُّ أن تبلغ ما بلغت؛ يكتب اللهُ له بها رضوانه إلى يوم يلقاه))[3].

كثيرون يفشلون في الوصولِ إلى الآخرين وتوصيلِ ما بأنفسهم من رسائل وقِيم ومعانٍ، والسَّبب في ذلك هو عدمُ التَّوفيق في استخدام ما في نفوسهم من كلماتٍ ومشاعر ومعانٍ بالصُّورة المثلى والمؤثِّرة، وبالطريقة المناسبة التي تراعي انتقاء الكلمات في إخلاصها وعمقها وبساطتها، كما تراعي الوِعَاءَ والقَالب الذي تخرج منه، وطبيعة الأشخاص المخاطَبين والزَّمان والمكان، فتراهم يُخرجون الكلماتِ من صدورهم خاويةً بلا روحٍ، لا حياة فيها، خاليةً من الحماسة والحرارة والعاطفة الإنسانية، وبذلك لن تؤتي أُكلها، حين تخرج باردةً باهتةً، لا لونَ لها ولا طعمَ ولا رائحة، فحتماً حينئذٍ لن تحرّك ساكناً، ولن تجد أذاناً صاغية لها، ولا قلوباً واعية لها، ولا أرواحاً مستجيبة متأثرة بها!

إنَّه لا ينبغي على الإنسان، مهما كانت مكانته ومقامه بين النَّاس، أن يستصعبَ ترويضَ نفسِه وتعويدها على أشياء يُحِبُّ أن تكون جزءاً من أخلاقه وتعاملاته وعلاقاته مع النَّاس جميعاً؛ فقد أرشدنا حبيبُنا وقدوتُنا محمَّدٌ، صلّى الله عليه وسلّم، بقوله: ((إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَوَقَّ الشَّرَّ يُوقَهُ))[4].

لابدَّ للإنسان من محاولاتٍ حثيثة في هذه الحياة لسَبْرِ أغوار نفسِه، واكتشافِ مهاراتِه ومواهبِه، والبحث عمّا تختزنه هذه النفس من مشاعر وأحاسيس وكلمات، ليجدّدها وينفضَ الغبار عنها، ويتفنن في تجميلها، وينشط في عطائها وإخراجها، كما يخرج المارد من قُمْقُمِه، ويبحث عن أوعية ونفوس فيمن حوله لاستقبالها وبثّها بينهم، لتتجلّى في أروع عبادة، ولتكون الاستجابة لله ربّ العالمين في نداء عباده: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. (الإسراء:53)، وحينئذ ستجدُ طريقَها المباشر للقلوب.

كثيرٌ ما يظلم الإنسان نفسَه في تفريطه في كسب القلوب والفوز بها والتأثير فيها، فالانتباه إلى أشياء بسيطة من حولنا، قد تشبع نفوساً جائعة للّطف والحنان ومتعطشة للاهتمام والرّعاية، وهناك أشياء تعني الكثير ولا تكلّف الكثير؛ كالبَسمة الصَّادقة، واللَّمسة الحنون، والكلمة اللَّطيفة.

فيمكننا بكل بساطة صناعة التأثير في النَّاس، وزرع الحبّ في النّفوس، بالأخلاق الرَّاقية الفاضلة وعميق الاحترام، وقد تكون لحظاتُ إنصاتٍ يجتمعُ فيها الأذن والقلب للصَّوت مع إبداءِ شيءٍ من التَّركيز والاهتمام، عظيم التأثير وبالغ الفائدة في الوصول إلى قلوبهم.

وقد تكون تلك اللَّحظات المؤثرة، مناداة باسمٍ يحبُّه، أو إضافة لقب أو كنية محبّبة عنده، كفيلة بتقارب قلب وصناعة ودّ وزَرْع محبّة، كما حدث مع إحدى السَّيِّدات، حينَ اجتمعن كلٌّ يُحَيّيها بطريقته، ويسألُ عن أحوالها، فإذا هي تردّ على تحيَّة وسؤال وجهّته لها، بلغتها العاميّة: “جعلش بعدهم”، وعلى مَسْمَعٍ من الجميع، مع أنّي لم أزِدْ على قولهم، سوى أنَّني قلت: “اشلونج يا أمَّ فلان”! فلتنظر للنَّفس البشرية وبساطة ما يحرّكها وما يؤثّر بها.

  وأذكر أنَّ لي قريبة من الأهل، كلَّما ألتقي بها تمجّد وتُثني على أحدِ أقاربي، وتبعثُ بالسَّلام له والدُّعاء له؛ لأنَّه كلَّما يقابلُها ويلتقي بها، يسأل عن ابنتها، وكثيراً ما كنتُ أعجبُ من هذا العمل الطيّب والمبادرة الحسنة وأثرها العميق في النُّفوس.

إنَّ ما يحتاجه الآخرون منّا هو وقت زهيد كافٍ لتعزيز الثّقة بالنَّفس والتزوّد بطاقة شحنٍ إيجابية، تكون مصدرَ لقولٍ طيّب ومبادرةِ حُبٍّ وعَمَلٍ حَسَنٍ وثناءٍ جميل، أمَّا أنت، فتحتاج إلى بصماتٍ تتركها رصيداً في قلوب الآخرين، عندما تحتاج لمن يجبر خاطرك، كما قيل: ((مَنْ عاش جابراً للخواطر، أدرَكَه اللهُ في وَسْطِ المخَاطِر)).

قد يكون ذلك كلّه، لا يستغرق منّا سوى ثوانٍ أو قليلٍ من الدَّقائق، لكنَّ ذكراها وأثرها في العقول والنفوس يأخذ حيناً من الدَّهر، فبَادِرْ.

هَمْسَة:

اِختَرْ من المفرداتِ ألطفَها، وانثرْها عبقاً يفوحُ شذاه على منْ حولك، فإنْ عصيت عليك لفظاً، فاستعن بنثرها حَرْفاً وحِبراً، فإنْ توفَّر وقودها، فحتماً بِصِدْقِها سَتَصِلْ.

[1]  رواه الإمام مسلم في صَحِيحِه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

[2]  رواه البخاري ومسلم في صَحِيحَيْهما

[3] رواه مالك في المُوطَّأ والترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

[4]  رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصحَّحه الشيخ الألباني، رحمه الله، في السّلسلة الصَّحيحة.

النشرة البريدية

اشترك فى النشرة البريدية لمعرفة كل جيد عن الدكتورة نورة