مُحتوى القُصَاصَة

 

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

والدنا الغَالي،

نوجِّه إليك صرخاتنا المستغيثة، في موضوع السَّفر ..

هذا الموضوع الذي يكاد أن يكون منتهياً بالنسبة لك .. ولكنَّه بالنسبة لنا .. مسألة حياة أو موت .. نطلب منك ونرجوك ونستعطفك ونتوسَّل إليك … أرجووووووووووووووووووووووووووووك.

نريد أن نسافر الى الولايات المتحدة الأمريكية؛ وذلك لأسباب لا تخفى على نظرتكم الثاقبة، والتي نوجزها فيما يلي:

في الصَّفحة التالية:

الأسباب يا أبي،

1-نريد صلة رحمنا خالي حمد وأبنائه الكرام، الذين لم نرَهم من زمن بعيد، ولا يخفى عليك ما لصلة الأرحام من أجرٍ عظيم عند الله سبحانه؛ قال الرَّسول عليه الصَّلاة والسلام: ((من أردا أن ينسأ له في رزقه ويمدّ في أجله فليصل رحمه)).

2-لايخفى على حضرتكم أننا في الدَّوحة لا نخرج الى أيّ مكان سوى الآتي:

1-بيت ماما هيا.

2-بيت خالتي الجازي (نادراً).

3-مراكز تحفيظ القرآن (سابقاً).

ولا نستأنس إلاَّ في السفر فقط، حيث لا عوار للراس ولا شيء .. ولا شيء من قبيل : (علوي راح المسجد ولا رجع .. دوروه)، (البنات نومهم مخترب .. مصيبة)، (المدرسة جات وما حفظوا لها)، (العنود ما تاكل ….)، (جوجو خلصت الكل …)، (يانوره، شوفي بناتك..  يا طالب، شوف عيالك ..)

3-أنت لا تعاني مثلنا كلَّ يوم الصّبح نقوم ندرس.. والله، تعبنا من قومة الصّبح.. حتّى ما نرقد مرتاحين، نحاتي المدرسة بكره بجينا لازم نحفظ لها ونسمع لها وبدون غلطات..

4-ولا الناس يايبه ملوعين كبدنا كلّ يوم يتصلون ويجون.. أرجوك يابابا ارحمنااااااااااااااااااا..

5-الحرّ.. درجة الحرارة في الظل 48 درجة مئوية .. “جهنم وبئس المصير”..

6-نريد أن نتفاخر عند ربعنا أننا سنسافر..

تابع الأسباب..

7-نريد أن تنشرح نفسنا للسنة الجديدة.. ولا يخفى ما لعدم السَّفر من أثر على نفسيتنا

FOR EXAMPLE…

إجازة الرَّبيع لم نسافر،  وقضينا الإجازة ندرس للمسابقة.. والله، دخلنا الكورس ونفسنا خايسة، وليس لنا خلق ..

8-جوجو تريد أن تنشرح نفسها للثانوية العامَّة التي سوف تغسل كبدكم من العنود .. (والله يبه أوعدك أجيب لكم نسبة بس أرجوك هديتي أبيها مقدّماً ان احنا نسافر).

9-الدانه المسكينة، ستسافر آخر سفره معانا .. حرام .. Please لازم نسفرها عشان تذكرنا بالخير …

10-تغيير الرّوتين ..

ونحطيكم علماً، أنَّ هناك العديد من الأسباب غير المذكورة أعلاه، لا نودّ أن نطيل في شرحها .. وكلّنا رجاء أن يرقّ قلبك، وتستجب لندائنا .. وتذهب لمكتب الحجز، وتحجز لنا، وتأتي لتفاجئنا .. وإنْ لم ننل موافقتك ومباركتك لهذه السَّفرة .. فوافنا برفضك .. ونعدك بمحاولات أخرى.

بناتك

الدَّانة، العَنود، جوجو

 

 

قِصَّة القُصَاصَة

غريبٌ عنوانُ هذه القُصَاصة، فهل البيوتُ تمرضُ حتّى تَتَعَافى!؟

سطورٌ قليلة في قصَّة هذه القُصَاصَة، كفيلة بإزالة هذا الاستغراب، فتاريخُ إصدار هذه القُصاصة كان في منتصف عام 1998م، وتمَّ الاحتفاظ بها حينها، لما أدخلته على أجواء البيتِ من رُوحِ المرح والفَرَح معاً، تجسّدت تلك الأجواء في إصرارِ مُرسليها على طلبهم ممزوجاً بروحِ الفكاهة والنّكتة، مُطعَّماً بذكائهم الفطري، ومُزداناً بثقافتهم الواسعة في إيصال صوتهم وتحقيق غايتهم ونيل مُرادهم؛ فهذا كان سلاحهم الوحيد، مع ضعفِ وقلّة حِيلتهم، ووَفْرَةِ حنانٍ يلمسونه في رِحَابِ وكَنَفِ مَنْ وجّهوا طلبهم إليه.

وهذا ديدنُ البيوت حينذاك، بيوتٌ وبيئات تتمتَّع بعافية واستقرار وحبّ وألفة، وترى أثرها في أنشطتها وفعاليتها وثقافة جيلها، على الرَّغم من قلّة وصغر سنوات أعمارهم حينذاك، عندها تدرك أنَّ هناك خطباً جللاً، عندما تجول بفكرك متأمّلاً حال البيوت في وقتنا الحاضر.

وقد شاءت أقدار الله العجيبة وتقديره الحكيم، أن جعل تناولَ هذه القُصَاصَة في أحسن حالات البيوت وأكثرها عافية؛ إنَّه فترة الحجر المنزلي في جائحة “كوفيد 19” المستجد، وهو التسمية الأصوبُ لهذا المرض؛ لأنَّ “كورونا” قد اجتاحت العالم عدَّة مرَّات؛ (مرَّة في عام 2014 وأخرى في نهاية القرن الماضي)، ولم يحدث ما أحدثه فيروس “كوفيد” المستجد هذا العام 2020، من شلٍّ لحركة العالم في جميع مناحي الحياة، (شَهِدَ بذلك وثائق وفيديوهات نشرت).

وكان من آثار ذلك الخطوات الاحترازية التي اتخذتها العائلات في الحَجْر المنزلي، وما اقتضاه من تواجدِ العائلة تحت سقفٍ واحد؛ حيث بدت الأجساد قريبة لبعضها غالبَ نهارها، وعادت العائلة للالتفاف على وجبات الطّعام، والتي فقدوها لأعوام، بسبب طبيعة العمل وظروفه، (التي لم تراع العوامل؛ اجتماعية كانت أو مناخية أو غيرها)، وأتيحت للعائلة في البيت الواحد، الفرص لممارسة حياة ترفيهية ورياضية وثقافية تجمعهم.

إنَّ هذه الجائحة تذكرّنا من جديد بمِنَحِ الله ولطفه سبحانه، التي تتولّد من أرحام المحن والابتلاءات، والتي أُدرك من خلالها كثيراً من النّعم التي لم يُفطن لها، وساهمت كثيراً في عافية البيوت من أمراض الغربة والتفكّك، إلاَّ أنَّ الدَّاءَ عُضَالٌ ومتأصَّل في الأفراد، تلحظ ذلك كلّه، في عقولٍ نأت عن بعضها، وتباعدت وتنافرت، وأصبحت هناك مسافاتٌ وجسورٌ تفصلهم، وتلمس ذلك جَلِيّاً في قلوبٍ هامت وأبحرت في عالم افتراضي لا حدودَ له، ولا رقيبَ لما يزرعه فيهم ويقدّمه من وسائل وبرامج وفعاليات، ولا مرجعية قيمية لها، ولا متابعة وتذكير من الأهل أصحاب المسؤولية إلاَّ من رُحم.

إنَّها أمراضٌ وعِلَلٌ وخروقاتُ الفيروسات التقنية، التي لم تقوّض سلامة وعافية الأجساد فحسب، بل تجاوزته إلى العقول فَغَزَتْها، وإلى الأفكار فقزَّمَتْها، وإلى القلوب فدمَّرتها، وإلى الأوقات فاستنزفتها؛ لقد عبثت في أغلى ممتلكات الإنسان، عقلِه وفكرِه وقلبِه، ووقتِه الذي هو عمره وحياته.

قُصَاصَتنا هذه، لو أمعنّا الفِكْرَ في صورها وحروفها ومعانيها، لوجدنا أنَّ لمرسليها ثقافةً دينيةً، استخدمت في تأكيدِ طلبهم، وخطاباً متطوّراً في روحه، واستعمالاً لتقنيات متطوّرة في كتابته وتدوينها (الرّسالة مطبوعة)، ويبدو من ذلك كلّه، بأنَّ مصادرهم وثقافتهم كان منْ مَعِين كتب منتقاة توفّرت لهم، يتصدّرها كتابُ ربّ العالمين، ومجتمعٌ محافظٌ لا يمكن اختراقه، إلاَّ بإذن أفراده، وبرامج تلفزيونية هادفة لزيادة معرفتهم وتبسيط المعلومة لهم؛ فهم من جيل الثمانينيات، الَّذي كان يتابعُ بشَغَفٍ كبير أشهرَ البرامج التربوية التعليمية، كان من أهمّها: برنامج “افتح يا سمسم “؛ والذي كان له عظيمُ التأثير وعميمُ الفائدة في أغلب أفراده، فقد تعلَّموا من خلاله القراءة والكتابة  قبل دخولهم المدرسة.

إنَّ كلَّ ذلك، ممّا ذُكر وغيره، من برامج ومصادر وبيئة ومجتمع في ذلك الوقت، يعكس بوضوح السرّ وراء الشكوى التي دوّنتها تلك الفتيات في قُصَاصَتهن.

في هذه الفترة، وبعد ثلاثة عقود، نجدُ أنَّ الأمرَ اختلف تماماً، فقد فقدت البيوتُ بيئاتها الرَّشيدة وحصونها الآمنة، وأصبحت تُغزى حتّى في مخادعها وفرش نومها، تصحّرت المشاعر، وجفَّت وفقدت دفئها، ونضبت مفرداتها، وتعوّقت أحاسيسها وتبلّدت، وأصبح التّعليم ضَحْلاً، يكاد يتجاوز الطالبُ مرحلته الثانوية ولا تستطيع أن تقرأَ له أو تسمعَ منه كلمة خالية من أخطاء في كتابتها وإملائها، وممّا يحزن جدّاً وينفطر له الفؤاد، هو بعدُ هذا الجيل عن كتاب الله الكريم، وعجزهم عن تلاوته وفهم رسم حروفه، مع حصولهم على عالي الشّهادات، وللأسف!

إنَّ البيوتَ اليوم تحتاج لعافية متجدّدة في الأسس والأركان والبنيان، تعيد إليها الأمن والسّكينة والطمأنينة، ليتخرّج منها أفرادٌ أسوياء في الفكر مستقيمون في التربية والسّلوك، في الحلّ والترحال والسرّ والعلانية، ينهلون من معين المصادر الآمنة، ويستقون ما يلهمهم من برامج راشدة، ويعيشون في كنف أسرة حانية ووالدين يدركون أنَّهم رعاةٌ على من استرعاهم الله سبحانه، كما أخبر بذلك قدوتنا صلّى الله عليه وسلّم: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا.. ))[1].

وحتّى تتعافى البيوت وتأخذ دورها المطلوب والمنشود، لابدَّ أن يستشعر الرُّعاة اليومَ قولَ الشيخ محمَّد الغزالي[2]، عندما سُئل عن الأسرة، فقال -رحمه الله-: ((الأسرة هي الكهفُ الوحيدُ الذي يجمع بين رجلٍ وامرأة، ومن ثمَّ فإنَّ تكوينها دِينٌ، والحفاظُ عليها إيمانٌ، ومكافحة الأوبئة التي تهدّدها جهادٌ، ورعاية ثمراتها من بنين وبنات جزءٌ من شعائر الله))[3].

لقد قدَّم لنا منهجُنا القرآنُ الكريمُ في آياته وأحكامه ضماناً لحماية هذه البيوت وأفرادها الذين يشكلون نوعَ العيش والحياة فيها، أولها: صلاح الوالدين اللَّذين هما أساسُ تكوينها وسببُ حفظِ الله لهم، كما في قصَّة إقامة الجدار للغُلامين اليتيمين في المدينة {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} (الكهف:82).  قال ابنُ عبّاس، رضي الله عنه، في تفسير هذه الآية: (حفظاً بصلاح أبيهما، وما ذكر منهما صلاح).

وثانيهما الدُّعاء لهما، فقد وعدنا الله بالإجابة فقال: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}. (غافر:60)، وقد أثنى الله على من يتوجّه له بالدّعاء لعائلته وسمَّاهم “عباد الرَّحمن”؛ فأيّ شرفٍ لهذا النسب، وأيّ عمل المرء له أحوج من هذا العمل: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}. (الفرقان:74).

فإذا استشعر المجتمع بكافة فئاته هذه المسؤولية العظيمة، وقام كلٌّ منهم بدوره ومسؤوليته، واستقى مرجعيَّته من كتاب الله الكريم وسنَّة رسوله الحبيب، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}. (التحريم: 6). وكانت قدوته ومنْ يتصدّر المشهد الاجتماعي هم الصَّالحون، حينها تدبّ العافية من جديد، وتزهر آثارها الطيّبة، ويحصد ثمارها اليانعة في الأسر والبيوت والمجتمعات.

[1]  حديثٌ متفق عليه.

[2]  هو الشيخ محمد الغزالي أحمد السَّقا، مفكر وإسلامي من مفكري العصر الحديث و، لقّب بـ (أديب الدعوة)، له العديد من المؤلفات في الفكر والتربية والدعوة، توفي يوم السبت 9 آذار/ مارس 1996م.

[3]  انظر: كتاب: قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافد، للشيخ محمَّد الغزالي، ص:

النشرة البريدية

اشترك فى النشرة البريدية لمعرفة كل جيد عن الدكتورة نورة