قِصَّة القُصَاصَة 

قُصَاصَةٌ هي إبداعٌ في فكرتها لمناسبة هي من أعظم المناسبات للإنسان؛ وهي تكوين البيت العائلي وافتتاحه بفرحة زواج، حيث وجدتها في ملفٍ أحتفظُ به، وأستودعه كلَّ غالٍ ونفيس على القلب، لما يحتويه من معانٍ سامية وأفكار رائدة ومناسبات هادفة.

قُصَاصَةٌ جميلة المنظر وبديعة البيان، أرفقت ببطاقة دعوة وُجّهت للمدعوين لحضور حفل زفاف (الشيخة نوره)، وقد زُيّنت هذه البطاقة، وزادها جمالاً وأناقة، حين احتوت خيرَ الدّعاء وبركته المأثور عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، الذي كان ((إذا رفَّأَ الإنسانَ إذا تزوَّجَ، قالَ: بارَكَ اللَّهُ لَكَ، وبارَكَ علَيكَ، وجمعَ بَينَكُما في خيرٍ))[1].

كما زُيّنت هذه البطاقة برباعية دعاء عجيبة؛ تبدأ بالبركة لهما وعليهما، ثمَّ الجمع بين الزوجين في الخير، ثمَّ الاستغناء بالحلال عن الحرام، ثمَّ يأتي الدُّعاء بثمرة هذا الزواج وهو هِبَةُ الذرية الصالحة.

قُصَاصَةٌ حوت “منيو” – ليس لوجبات غذائية للجسم – ولكنَّها حوت قائمة ذهبية لوجبات هي غذاءٌ للرّوح وبلسمٌ للنَّفس وجرعةٌ لتحصيل السَّعادة والأنس والتَّفاهم، يحتاجها كلُّ إنسان مقبل على تأسيس مشروع للحياة الطيّبة، ويحتاجها كلُّ عروسين مقبلين على رسم معالم الخطوة الأولى في مشروع الزواج والشراكة الأسرية.

 ومع أنّي لا أذكر صاحبة البطاقة، ولكنَّها بطاقة لها الأثر البالغ والذّكرى النّافعة والتأثير الهادف، ولعلَّ نيَّة طيّبة لصاحبتها وإخلاصاً صادقاً نابعاً من قلبها، هو الذي جعلني أختار هذه القصاصة، وأتناولها بالحديث في كتابي، ليكون لها بتلك الفكرة والعمل سنّة حسنة وعملاً صالحاً ووقفاً خيرياً مستمراً، لتذكير النَّاس بالخير ودفعهم لتجسيد ما جاء فيها على أرض الواقع ليعمّ النفع والفائدة والأجر والثواب الجميع، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((من سنَّ في الإسلام سنَّة حسنة، فله أجرُها وأجرُ من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء))[2].

 ولا أملك لصاحبة هذه الفكرة إلاَّ دعاء أتوجّه به إلى الله تعالى، بأن يبارك لها ويبارك فيها وبها، ويجعلهم أسرة محاطة برعاية الله وحفظه، ويمنَّ عليهم بمودة ورحمة تغشاهم أينما كانوا، ويرزقهم ذرية طيّبة تكون لهم زينةً وقرَّةَ عين.

لقد تعوَّدنا ببطاقة الدَّعوات للأعراس أن تكون مرفقة ببطاقة توضّح فقرات الحفل أو تحتوي “منيو” لنوعية ما سيقدّم من طعام أو مشروب، إلاَّ أنَّ هذه البطاقة جاءت مختلفة تماماً، وتحمل فكراً ينظر إلى أبعد من برنامج حفل أو منيو طعام؛ إنَّه فكر يؤسّس لزرع عمل صالح وسنة حميدة في المجتمع، ويساهم في تعزيز القيم لدى الأسر والعائلات في مناسباتهم، من خلال تقديم بعض الجرعات المؤثرة النَّافعة في مقاومة كلّ مشكلة تهدّد هذه الأسرة في بداية نشأتها، وأخرى تُرسي قواعدَ سعادتها وضمان استمرارها.

قُصاصة (منيو) محبَّة، أرفقتها بأخرى اقتطعتها من مجلة أسرية؛ حيث أعجبني ما عرض فيها من أفكار، حين سُمَّيت بفيتامينات ضرورية للزَّوجين، وكلتا القُصاصتين حوت أفكاراً إبداعية في عنوانيها، بسيطة في عرضها، وحلولاً مبتكرة لكلّ ما قد تعاني منه الأسرة في حياتها ومسيرتها ومراحلها المختلفة.

ومن هنا تكمن الفكرة الإبداعية فيها، فبدلاً من تقديم “منيو” يحوي أصنافاً من الطعام، فإذا هي تقدّم وجبة حبّ للمتزوجين، متمثلة بأقوال وأفعال، وطريقة تحضيرها، وكيفية تقديمها، ومختومة بنصيحة بفاعلية ومدى تأثيرها.

أمَّا القصاصة المصاحبة والحاوية للفيتامينات اللاَّزمة للزوجين، فهي عبارة عن خمسة فيتامينات، كلّ واحد منها يعني بتصرّف له الأثر في تخفيف ما يطرأ على الحياة الزوجية، بل يكون مقاوماً لحدوث المشاكل، وله المفعول السَّريع في معالجة كلّ متاعبها وأمراضها وعِللها.

ولو تجاوزنا إعجاباً بمحتوى القصاصتين، وتأمَّلنا وصفات جاءت فيها سواءً كانت وجبات الحبّ أو الفيتامينات الضرورية، لوجدناها تعبيراً صادقاً وتجسيداً واضحاً، لما حواه كتابنا الكريم ومنهاجه القويم، من آيات عظيمة ما تركت صغيرة ولا كبيرة من أمرٍ يُنظّم حياة المسلم إلاَّ وبيَّنت دقائق تفاصيله وأوضحت دلالاته وهداياته، ثمَّ كانت سنّة وسيرة المصطفى صلّى الله عليه وسّلم مع زوجاته تمثّل واقعاً تطبيقياً لها، وتعطي القدوة والأسوة الحسنة.

فهو الّذي عليه الصَّلاة والسَّلام، وعلى آله وصحبه وزوجاته أمهات المؤمنين، قد أولى اهتماماً بالغاً بالحياة الأسرية بدءاً من مرحلة اختيار لشريكَي الحياة وبناء مشروع الأسرة المسلمة في لبناتها الأولى، بحسن الاختيار للزَّوج والزوجة وبيَّن معايير الاختيار، قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ۚ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}. (النور:32)، وقال الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: ((الدُّنيا كلّها متاعٌ، وخيرُ متاعها المرأة الصالحة))[3]. وقال عليه الصَّلاة والسَّلام: ((ليتخذ أحدكم قلبًا شاكرًا ولسانًا ذاكرًا، وزوجة مؤمنة تعينه على أمر الآخرة))[4].

لكنَّنا وللأسف، كلّما ابتعدنا عن معالم شرعنا الحنيف وتوجيهات الرَّسول صلّى الله عليه وسلم، بتنا نرى ونسمع عن صور الفشل الذي يعتري الحياة الأسرية بين الزَّوجين، وما هو إلاّ بسبب التساهل في تطبيق تلك المعايير الرّبانية والإعراض عن التوجيهات النبوية التي تعطي عن الحلول والمخارج لحماية الأسرة من التفكّك وتعالج جميع مظاهر الاختلاف والشقاق بين الزوجين وكل الأوضاع المختلفة للأسرة.

فهناك الدَّعوة إلى حسن العشرة {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوف} (النساء:19)، والدَّعوة لتحمّل كلّ منهما الآخر {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}. (البقرة :216). ثمَّ هناك الصَّبر وعاقبته الجميلة: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا}. (الطلاق:1). وقوله تعالى: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا}. (النساء :130). نعم، فعندما تستحيل الحياة ويحدث الفراق، يواسيهم الله سبحانه وآياته، ثمّ يوجه سبحانه إلى الإحسان وعدم نسيان الفضل عند نشوب الخلافات: (وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. (البقرة:237).

وقد جاءت الأحكام الشرعية للحالات الزوجية مرفقة بأخلاق الأحكام، وهو ما زخرت به الآيات الكريمة في سورة البقرة في أمور الخطبة والزَّواج والطلاق والمهر وعدَّة الطلاق والوفاة وغيرها من الأحكام الشرعية التي تضبط السلوك وتعزّز الأخلاق وتنمّي الروابط وتزيد الألفة والمحبّة.

إنَّ ما تعاني منه البيوت اليوم من مشاكل وتحدّيات تهدّد استقرارها وسعادتها، جميعها نابعٌ من سطحية في فهم كتاب الله تعالى وتدبّره، وتطبيقه في شؤون الحياة كلّها، فحصروا عبادته في تلاوة دون تدبّر أو اتّباع أو تطبيق، وهو الَّذي أنزل دليلاً للحياة السَّعيدة والعاقبة الحميدة.

إنَّها وإن كانت بطاقة صغيرة يُشكر من أبدع في فكرتها وقدَّمها بهذه الحلّة الجميلة، فهي تعدُّ بداية موفَّقة لوضع اللبنات الأولى، لتأخذ بأيدي هذه الأسر في بداية حياتها، وتحميها من هذا المنحنى الخطير الَّذي طرأ على هذا الحدث الاجتماعي المميّز والمناسبة الأسرية المهمّة في حياة النّاس، حين يقدّم الاهتمام بالمظاهر على حساب المبادئ والقيم، وحين يهتَّم في تفاصيله بالقشور ويُنْسى اللّب والأصول، في غفلة عن الهدف الأساسي الَّذي من أجله أنشئ هذا العهد الأبدي للأسرة ودُوّن هذا الميثاق الغليظ الرّابط بين رُكْنَي الأسرة؛ الزَّوج والزوجة.

صحيحٌ أنَّ القصاصة الثانية احتوت خمسَ نصائح، ذُكرت على شكل فيتامينات، لتشابه رابط التَّأثير بينهما، فكما أنَّ هذه المعاني والأفكار ضرورية لتقوية الأواصر بين الزَّوجين، فكذلك هي الفيتامينات مهمَّة لتقوية الجسم في أداء مهامه على أحسن وجه.

إنَّ الأسرة هي اللّبنة الأساسية المهمَّة في تكوين المجتمع، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}. (النحل: 72). فالأسرة هي محور البناء الاجتماعي الذي حثّ الإسلام على الاعتناء والاهتمام به وحمايته، وبذلك كان لا بدّ من وقفة تتظافر فيها جميعُ مكوّنات المجتمع، أفراداً ومؤسسات، بداية من تثقيف أفراده وخاصَّة أولياء الأمور والزَّوجين في بداية حياتهم، لكي تأسَّس هذه البيوت على تقوى من الله تعالى؛ الدّين قوامُها والأخلاقُ دواؤها، والعلمُ عدّتها، كي تستطيع مواجهة مخاطر وتحدّيات تحرف بوصلتها عن الهدف من الزّواج وتكوين الأسرة، وسط انتشار مظاهر ومناسبات، تمَّ اختلاقها، ما أنزل الله بها من سلطان، تعدَّدت أساليبُها وكثرت تكاليفُها وتوسّعت مظاهرُها، فأذهبت أنسَ القلوب وسعادة الأرواح وجمال الأذواق، وسرعان ما تنقضي بانقضاء تلك المظاهر، لتترك شباباً أثقلت كواهلهم ديونٌ خلّفتها، وقد حيلت بينهم وبين فرحة يتوقون إليها في تأسيس هذه الأسرة، باستمرار هموم تشغل بالهم في كيفية تغطية تكاليف تلك المظاهر والطقوس التي كانوا في غنى عنها، في مقابل  سعادة الأسرة وبركة يحظون بها في التزام تيسير أمر الزواج بأقل النَّفقات.

وتشاء إرادة الله ((بسبب جائحة كورونا)) أن يجرّب المجتمع احتفالات أسرية بمراسم الزواج، تمَّت من خلال الاهتمام بأصل المناسبة دون قشورها، وذلك بلقاء الزَّوجين في أجواء عائلية؛ خالية من مظاهر الإسراف والتكلّف، الَّتي تفقد هذا الحدث المهمّ في حياة الزوجين بهجته، وتذهب أنسه وتقلّل بركته، فيتحقّق الالتزام بجوهر هذا الحدث السَّعادة وتنتشر الفرحة وتعمّ أركان البيت السُّرور والبركة، ويبتعد عنه كلّ ما من شأنه يعكّر صفو حياته  بسبب التكلّف والإسراف والجري وراء المظاهر الزائفة التي غالباً ما تكون عاقبتها وخيمة، لأنّها خالفت قاعدةً شرعية في النَّهي عن الإسراف والتبذير وهَدياً نبوياً في وجوب التوسّط والاعتدال في الأمور كلّها.

 ولعلَّ المجتمع الَّذي يعتمد هذه الطريقة في أفراح الزَّواج، ويتخلَّى عن كلّ ما يعكّر صفوها ويمحق بركتها ويذهب أنسها وسعادتها، ممّا ذكر آنفاً من مظاهر وعادات، يؤسّس لبناء أسر مسلمة على أساس الإيمان ودعامة التقوى وأركان الأخلاق والقيم، ليتحصّن المجتمع بهذه الأسر الناشئة لتحقيق خيرية هذه الأمَّة لتنال بحقّ شرف خلافة الله في الأرض.

وتأتي هذه البطاقة لتشير في كلماتها إلى احتياجات مكمّلة لدستور هذه الحياة الزَّوجية، في كلمات لطيفة ولمسات حانية لا يستغني عنها الزَّوجان في مسيرة حياتهما الناشئة، من خلال التفاهم والتكامل والتعاون، وتنازلات بين الطرفين، تسير بها الحياة محاطة بحسن الاجتماع وطيب الجوار وسعة الصدور، ومحاطة بأجمل الأخلاق ((الاحترام)).

قصاصاتٌ حرصت أن يضمَّها هذا الكتاب، عسى أن تؤسّس في مفرداتها (شكلاً ومضموناً) لميثاق أدبيّ، تجتمع حوله كلّ البيوت والأسر، التي قامت على أساس ((الميثاق الغليظ))، قال الله تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}.  (النساء:21)، وهو أبلغ الوصف لهذه العلاقة الزوجية، ليدلّ هذا الميثاق على قيمة العهد وقوّة الرّباط وقداسة العلاقة، التي بدأت بـكلمة ((قبلت)) وقراءة فاتحة الكتاب، لتستمر في عشرة سعيدة، أسوارها المودَّة والرَّحمة، وغطاؤها سكينة وطمأنينة، وزينتها ذريَّة طيِّبة مباركة.

هَمْسَةٌ:

(تذكر جيّداً أنَّ الأسرة هي الكهف الوحيد الذي يجمع بين رجل وامرأة، ومن ثمَّ فإنَّ تكوينها دينٌ، والحفاظ عليها إيمانٌ، ومكافحة الأوبئة التي تهدّدها جهادٌ، ورعاية ثمراتها من بنين وبنات جزءٌ من شعائر الله).  (محمَّد الغزالي).

[1]  أخرجه الإمام أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[2]  رواه مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده والترمذي في سننه عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.

[3]   رواه الإمام مسلم في صحيحه.

[4]  رواه الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه.

النشرة البريدية

اشترك فى النشرة البريدية لمعرفة كل جيد عن الدكتورة نورة